الجمعة، 15 يونيو 2012

أن تكون شاعرياً- أميل سيوران-




أن تكون شاعرياً/غنائيا- إميل سيوران-







من كتاب على قمم اليأس.


لماذا لا نستطيع البقاء مُغلقين داخل أنفسنا؟ لماذا نلهث خلف التعابير والقوالب، محاولين إفراغ  نفوسنا من المضامين و "المعاني"، مُستميتين في محاولة تنظيم ما هو اصلاً شقي ومُساق بالفوضى!؛ ألا يكون ببساطة أكثر إبداعاً أن نستسلم لتدفقنا الداخلي بدون نية تجسيده؟ أن نتمرغ بشهوانية وحميمية في صراعنا واهتياجنا الداخلي !، عندها سنستشعر بكثافة أغنى،وتفتح التجربة الروحية فينا ، سنتسجم كل الرؤى والتجارب وتشرق في خصوبة الفوران، يولد إحساس بالواقعية والبهجة الروحية كأنه إشراقة موجة في مقطع موسيقي. أن نمتلئ بأنفسنا بالكامل، ليس بدافع الكبرياء، وإنما للإثراء والخصوبة الداخلية. أن تتعذب بحس من لا محدوديتك الداخلية؛ يعني أن تعيش بحماسة مُفرطة، حتى تشعر بأنك ستموت من الحياة. شعور كهذا نادر جداً وغريب حد أننا لا نعيشه دون صراخ، أشعر بأني سأموت من الحياة، وأسأل نفسي هل من المنطقي أن أبحث عن توضيح؟!. عندما يتذبذب ماضيك الروحي كله بداخلك مصحوبا بقلق كاسح، عندما يّبعث شعور بالحضور التام تجاربا مقبورة وتفقد إيقاعك الحيوي؛ عندها ومن على قمم الحياة يقبض عليك الموت ، لكن دون الخوف الطبيعي المُصاحب له عادةً. إنه شعور مماثل لشعور العُشاق على قمم السعادة، حين يلح عليهم هاجس الموت بصورة عابرة لكن ملحة، أو حين يترصد هاجس الخيانة براعم حبهم.

نادرون جداً أولئك القادرون على تحمل تجارب كهذه إلى النهاية،إذ أن هناك على الدوام خطر جدي مُحدق بِقمع شيئ يتطلب تجسيداً- ضبط الطاقة المتفجرة-لأنه تأتي لحظة لا نستطيع فيها كبح مثل هذه القوة الجارفة، ومن ثم السقوط من الوفرة الفائضة. ثمة هواجس وتجارب لا نستطيع أن نستمر في الحياة معها، والخلاص يكمن بالإقرار بها. التجربة المروعة للموت؛إذا حفظت بالوعي تُصبح مُدمرة، إذا تحدثت عن الموت؛ فإنك تُنقذ جزءا من نفسك،لكن وفي الوقت نفسه يموت جزء من ذاتك الحقيقية ؛ لأن تجسيد المعاني يفقدها الفعلية الموجودة بالوعي. لهذا السبب تُمثل الشاعرية إلغاء للذاتية، إنها مقدار مُعين من الفوران الروحي للفرد والذي لا يمكن احتوائه ،إذ يحتاج إلى تعبير مُستمر.أن تكون شاعرياً/غنائياً-يعني ألاّ تستطيع البقاء مغلقا بداخلك، الحاجة إلى البروز هي الأكثر حِدة، وكلما كانت الغنائية أقوى، تكون باطنية،عميقة ومُركزة.لماذا الإنسان المُغذب أو العاشق شاعري؟ لأن حالة كهذه وبالرغم من أنها موجهة و مُتفاوتة طبيعياً ، تَنبع من الجزء الأعمق والأشد حميمية في كياننا،من جوهر ذاتنا ، كما منطقة الإشعاع. يصبح المرء شاعرياً عندما تَسحق الحياة إيقاعه الحيوي وتصبح التجارب من الكثافة والحِدة حد أنها تؤلف المعنى كله للشخصية.  البديع والفريد فينا يتحقق بإسلوب تعبيري خارق، بحيث يرتفع بالفرد على المستوى كوني؟!- أعمق التجارب الذاتية هي الأكثر كونية أيضاً. لأنه عبرها يَبلغ المرء المنابع الأصيلة للحياة، يقود الاستبطان الصادق إلى كونية لا يمكن أن يصل إليها هؤلاء الباقون على الهامش-والظاهري.

من لا يفهمون التعبيرات ذات الطابع الكوني ، يرون -حسب تأويلاتهم السوقية- الغنائية ثانوية ووضيغة ونتاجا للاضرابات العقلية، هذه الطريقة أو الرؤية، تَفشل في ملاحظة شاعرية المصادر للذاتية، والتي تُظهر عمقا وغنا جوانيين. هناك أشخاص يصبحون شاعريين فقط في لحظات مصيرية من حياتهم، البعض فقط عبر مخاض الموت،عندما يظهر ماضيهم كله أمامهم فجأة ويضربهم كشلال. والبعض يصبحون شاعريين بعد تجارب مُحرجة وحاسمة، عندما يصل الاضطراب داخلهم إلى الذروة،هؤلاء الأشحاص الميالون طبيعياً إلى الذاتية أو اللاشخصية،الغرباء سواء بالنسبة لأنفسهم أو الواقع،عندما يخطفهم الحب يختبرون مشاعر تُحفز جميع مصادرهم الداخلية. حقيقة أن الجميع تقريبا يكتبون الشِعر عندما يعشقون، من شأنها اثبات أن مصادر التفكير -الأفهومي/التجريدي ضعيفة أمام التعبير عن اللا محدودية الداخلية،أن الميوعة وأدوات التعبير اللاعقلانية وحدها قادرة على أن تمنح الغنائية تجسيدا ملائما. تجربة المعاناة حالة مشابهة جدا؛ إذ لطلما كنت غافلا عن المطروح المخفي في داخلك والعالم ، كنت تعيش مُقتنعاً ومكتفياً بالأشياء الظاهرة، عندما فجأة تجد مشاعر المعاناة هذه والتي كانت ثانوية لديك حتى على الموت نفسه تتولى زمام ـمورك وتنقلك إلى منطقة من التعقيدات اللانهائية تؤدي بذاتيتك إلى اضطراب هائل. أن تكون شاعرياً من المعاناة يعني أن تُحقق الطهارة الداخلية، حيث تكف الجروح عن أن تكون جوهر وجودك فحسب، شاعرية المُعاناة هي أنشودة الدم واللحم والأعصاب. المعاناة الحقيقية تَكمن في المرض، تقريباً كل الأمراض لديها فضائل شاعرية، لكن فقط أولئك الذين يتجمدون في لا حساسية مُخزية يبقون سُجناء الألم، ويضيعون فرصة تعميق الشخصية التي يجلبها . لا يصبح المرء شاعرياً إلا بعدَ محنة عضوية شاملة. الشاعرية بالمصادفة تحمل في مصادرها عوامل سطحية تختفي باختفائها. ليس هناك شاعرية أصيلة دون بذرة جنون داخلي. 

من المهم فهم أن بدايات كل ذهان عقلي موسومة بحالة شاعرية تتخطى جميع الحواجز المعروفة وتمحي كل الحدود، تفسح الطريق لحالة شديدة من السُكر الداخلي، خصبة ومن النوع الخلاق. هذا يوضح أن الانتاجية الشعرية هي أول سمات مراحل الذهان، وبناءً على ذلك يمكن النظر إلى الجنون كنوبة شاعرية. ولهذا سنفضل العزوف عن اللإشادة بشاعرية ما لئلا نمدح الجنون.
الشاعرية حالة تتجاوز الصيغ والأنظمة، تدفق مُباغت يُذيب كل العناصر في حياتنا الداخلية في ضربة أو إنقضاضة واحدة، ضمن إيقاع وكثافة شاملة ،حشد مثالي، يقارن بصفاء ثقافة من الصيغ والإطارات المُتحجرة والتي تُقَنِع كل شيئ. الجو الشاعري بربري تماماً في تعاببره، قيمته تكمن على وجه التحديد في نوعية وحشيته..إنه دماء،صِدق، ونيران !.

ترجمة- شيفا-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق