الأحد، 17 سبتمبر 2017

بليز باسكال: حول بؤس الإنسان. -الجزء الثالث والأخير-




بليز باسكال




لهذا، حينَ قالَ سينيا لبيروس الَّذي كانَ يسعى للرَّاحةِ مع أصدقائِهِ بعْدَ احتلالِه أجزاءَ كبيرةً منَ العالمِ، أنَّ عليهِ البَحثَ عنْ سعادتِه في ذاتِهِ بدلَ أنْ يبحثَ عنها بعدَ هذا الكمِّ الهائلِ من الجُهدِ، لقد كان سينيا هنا يُسدي لهُ نصيحةً لمْ يتقبَّلْها. بلْ إنَّ هذهِ النَّصيحة لمْ تَكُن أكثرَ وجاهةً مِنْ مشروعِ الشَّاب الطَّموحِ بيروس. إذْ اعتبرَا معًا أنَّ الإنسانَ يُمكنُ أنْ يكتفي بذاتهِ وخيراتهِ، دونَ أنْ يملأَ فراغَ قَلْبهِ بآمال خياليَّة: يا له منْ خطإ جسيمٍ! فبيروس لمْ يَكن ليصيرَ سعيدًا لا قبلَ احتلالِ العالمِ ولا بعدهُ. ربَّما كانت الحياةُ الرَّغيدةُ الَّتي اقترحَها عليهِ وزيرهُ أقلَّ قدرةً على إغراءِهِ منْ مشاغلِ الحُروبِ والأسفارِ الَّتي سيتأمَّلُ خلالها.
علينَا أنْ نعترفَ إذنْ أنَّ التعاسةَ بلاءٌ مكتوبٌ على الإنسانِ بحيثُ قدْ يضجرُ دونَ أيّ سببٍ خارجيّ، بلْ حالتهُ الطَّبيعية كفيلةٌ لوحدِها بجعلهِ ضجِرًا: هوَ بالتَّالي ضعيفٌ وخفيفٌ للغايةِ، بحيثُ أنَّه أمام ألفِ سببٍ جوهري للضجر، يكفي أقلُ أمرٍ تافهٍ ليرفِهَ عنه. وإذا فكّر في هذا بجديّةْ، سيَتَذمرُ من كونِهِ يُرفِهُ عن ذاته بأشياءَ سطحيةٍ وحقيرةْ، أكثرَ مما يَتذمَرُ من مآسيه الحقيقية؛ وهذه الترفيهاتُ هي أقلُ وجاهةً ألف مرة من ضجره.
كيفَ لرجلٍ فَقَدَ ابنه الوحيد، وبعد أن كان في الصباح يبكي ويلعن قدره، كيف له أن يضحك في المساء؟ لا تستغربوا! إنه الآن مشغولٌ بمحاولةِ تخمينِ المكانِ الذي سيهرب منهُ الأيلُ الذي تطارده كلابه منذ ستّ ساعات.
لا يلزمُ أكثر من ذلك للانسان، مهما كان كَرَبُه عظيما. إذا نجحنا بالترفيه عنه مؤقتا، سَنَراه سعيدا لذلك الوقت، ولكنها سعادةٌ مزيفةٌ ووهمية، لأنها لا تأتي من امتلاك شيءٍ مادي وحقيقي، ولكن فقط من خفّةِ رُوحِهِ التي تُنسيه ذكرى معاناتِهِ الحقيقية، لتَرْبِطهُ بأشياءَ بخسةٍ وتافهة، لا تستحق أن يَتَورطَ فيها. إنّها لغِبطةٌ مرضيةٌ ومسعورة، لأنّها لا تَدُلّ على صِحّةِ رُوحِهِ وإنّما على اخْتِلالِها. إنّه يَضحكُ ضِحْكَةَ خُبْلٍ ووَهم. لأنّه أمرٌ غريبٌ أن تُفكّرَ فيما يُعجبُ الإنسانَ في الّلعب واللهو. وعلينا الاعتراف أنّها بِشَغْلها للنّفس، هِي تُلهيهِ عن آلامه، وهو أمرٌ حقيقي، ولكنّ هذا لا يَحدثُ إلاّ لأنّ العقلَ يَصنعُ موضوعا وهميا لِشَغفهِ، فَيتشبّتَ به.
ما هَدفُ أُولئكَ الّذينَ يَلعبونَ كرة المضربِ في رأيكم، بِتَركيزٍ كبيرٍ وانهماكٍ جسدي أكبر؟ إنّ غرضهم هو التّباهي أمامَ أصدقائهم في اليوم الموالي بأنّهم لعبوا أفضلَ من المنافس، وهذا سرّ ارتباطهم بالّلعب. والأمرُ سيّان بالنّسبة لأولئك الّذين يَعرقونَ في مكاتبهم، لِيُظهروا للعلماءِ أنّهم قد حلّوا مَسْألةَ جَبرٍ مُعَقّدة لمْ تُحلّ قبلَ ذلك من قبل. وهُوَ أيْضا حالُ أولئك الّذين يُعَرّضونَ أنفسهم لِمخاطرَ هُمْ في حلّ عنها، لِيَتباهوا أنّهم بمكانةٍ لم يَستطع غيرُهم بُلوغَها، بشكلٍ يوحي بالبلاهة في رأيي. وبالنهاية، هناك أولئك الّذين يَستهلكون ذواتَهم لملاحظةِ كلّ هذه الأمور، لا ليكتسبوا منها الحكمةَ، وإنّما فقط لِيتباهوا بأنّهم أدركوا عَبَثها: وهؤلاء هُمْ الأكثرُ خَبَلاً، لأنّهم مخبولونَ رغمَ معرفتهم. كان حَرِيًّا بهم عَدم التفكيرِ بأَحدٍ إذ امتلكوا هذه المعرفة.
ذاك الّذي يَمضي حياته بِلَا ضجرٍ في الّلعبِ والمراهنةِ كُلّ يومٍ بأشياءَ قليلة، سيغدو تعيسا إنْ مَنَحناهُ كُلّ يومٍ ما يَكسبُهُ شريطَةَ ألّا يلعب. قد َنعتقدُ أنّه يَبحثُ عن متعةِ الّلعبِ وليس الربح. ولكنّه إذا لَعبَ منْ أجلِ لا شيء لَنْ يَتحمّسَ أبدا، وسَيملّ. هو لا يَبْحثُ عَن الّلعب وَحْده إذا: لأنّ مُتعةً مستمرةً وبِلا حماس سَتشعرهُ بالضجر.  يَنبغي أنْ يَتَحمّسَ وأنْ يُحَفّزَ نَفسه، عَبْر تَخَيّلِ أنّه سيَصير سعيدا بِربحٍ ما كان لِيَرفُضَ أخْذهُ شَريطَةَ ألّا يَلعب. إنّه يَصنعُ لِذاته موضوعَ شغفٍ يُثير رغبته، غضبه، ذُعره وأمانيه.
وهكذا، فإّن ما يُرَفّهُ عَن الإنسان ليس فقط أمورا خسيسةً، هي أيضا مُخادعةٌ ومزيفة. أيْ تَرْتكِزُ على أوهامٍ وخدع، لمْ تَكُن لِتَشْغَلَ عَقْلهُ لو لَمْ يَفْقِدْ حِسّ وطَعْمَ الخير الحقيقي. ولو لمْ تَكُن رُوحُه قد امْتَلَأتْ خسّة، تفاهة، خفّة وكبرا وعِدّةَ مَثالِبَ أخرى. هذه الأمور لا تُخَفّفُ بؤسنا إلّا ِلتَصْنعَ بُؤسا وشقاءً أَكثرَ حضورا وواقعية، لأنّها ما يَمْنَعُنا حقّا منَ التفكيرِ بِذواتِنا، ويَجعلنا نَضَيّعَ وقتنا هباءً. دونها، كنّا سَنَملّ، وهذا الضّجَرُ كان سَيَبحثُ عن مَخارجَ حقيقية. ولكنّ الترفيهَ يَخْدعنا، يُسلّينا، ويَرمي بنا بِلَا إدراكٍ إلى الموت.
لمّا عَجزَ الإنسان عن علاجِ الموتِ والبؤس والجهل، ارتأى ألاّ يُفكّر بها، لِيَصيرَ سعيدا؛ إنّ النسيانَ هو كلّ ما اخترع الانسان لِيُعزّي نفسهُ أمام كلّ هذه الآلام. يا لَهُ من عزاءٍ شقي. لأنّه لا يُشْفي الآلام، بَلْ يُخْفيها لبعضِ الوقت، وهو إذْ ذاكَ لا يَجعلُنا نُعالِجُها حقّا. وهكذا، بَعْدَ تَحْويلِ طبيعةِ الإنسان، صار الضّجرُ، الّذي كان مَأساتهُ الحقيقية، خَيْرَ حَليف له بطريقةٍ ما، لِأنّه يَجْعَلهُ يَبحثُ عَنْ حَلّ حقيقي. والترفيهُ الّذي كان يَنْظُرُ له كَحَليفٍ صار الشّرَ المُحْدِقَ به، لأنّه يُبْعِدُهُ أكثر منْ أيّ شيءٍ آخرَ عَنِ البَحثِ عَنْ عِلاجٍ لآلامِه. وهذا دليلٌ على بُؤسِ الإنسانِ وفَسادِه، وهو كذلك دليل على عَظَمتِه. لأّن الإنسانَ لا يَضْجَرُ مِنْ كُلّ شيءٍ ولا يَبْحَثُ في كلّ شيءٍ عَنْ مَشاغِلَ مُحْتَملة، إلّا لأنّ فِكرةَ السّعادةِ الضّائعةِ تَشْغلُ باله. وهذه السّعادةُ الّتي لَمْ يَجِدها داخِله، يَبْحثُ عنها بِلَا جدوى في أشياَءَ خارجية، دون أَنْ يَستطيع تَلْبِيَتَها، لأنّ السّعادةَ لَيست داخِلنا، ولا في باقي المخلوقات، وإنّما في الرّبِ وَحْدَه.


-تم-


ترجمة: Achraf Nihilsta & ياسين الحيلي