الثلاثاء، 19 يونيو 2018

ضد الماكيت





ضد الماكيت










ستجدون أسفله لائحة رغبات لن تتحقق كي لا أكف عن الغضب عندما أجد صدفة نصا يتجاوز توقعاتنا في التفاهة، يبهرنا بلا آدميته، يدنس روحنا، ويدفعنا لصفع مُرتكِبه لو وجد أمامنا.

لأنني لم أسمع موسيقى الحرية وأنا أقرأ بعض النصوص، سأجعل كتابها يسمعون صرخة عنف أنيق وهم يقرأون تدوينة تشبه مطرقة دون سندان، تؤذي ولكن لا تدمر.

لم أقابل صفاقة تعادل تلك التي يتمتع بها بعض الذين يلتزمون بموعد التسليم بأي ثمن. 
ولا يعادل في الرداءة نص ل"كاتب دوري" يكتب الرسائل المفتوحة والخمس نصائح.
العار كله لكاتب بخيال محدود مثل أدبه، ولكل روائي يتصور اللغة، ولكل شاعر لا يجرؤ على تكرار ذاته.

لا يحمل النص الأدبي جوابا إلا على سؤال واحد: أين إنسانيتك؟

أنا أهاجم كل أديب فاشل في الكذب، مؤمن بالفضائل الفاضحة للعمل، غير متذوق لحلاوة البصاق وقلة الاحترام.

أنا أهاجم كل من لا يحترم استرزاقه، ويهدره عبثا في منصات أدبية مقابل دريهمات.

أنا أهاجم كل من احترف لعبة "املأ فراغ الماكيت."

تهمتكم أيها العزيزون هي الجدية والاحترافية، نصوصكم تشبه البيانات أو مقالات الرأي، لست أتخيل بينكم شخصا يقهقه بينما يكتب، لست أرى بينكم شخصا ينظر لكلمته إلا بجفاف وتجرد.

لقد تجاوزتكم موضوعيتكم، وقضي الأمر.

معاييرنا تختلف. رسائلنا أيضا. وحتى لا أخلف وعدي، هذه لائحة رغباتي:
-أن تتجاوز العرض البليد للتواريخ والأحداث
-أن تكف الروايات عن كونها سيناريوهات معدة للإخراج
-ألا تشبه المقالات ثرثرة على هامش ندوة.





بقلم: Achraf Nihilista




الثلاثاء، 29 مايو 2018

عيد الخاسرين - مقتطف من مسرحية.




عيد الخاسرين - مشهد من مسرحي




أَنتِ حقيقتي ، وأَنا سؤالُكِ
لم نَرِثْ شيئاً سوى اسْميْنَا
وأَنتِ حديقتي ، وأَنا ظلالُكِ
عند مفترق النشيد الملحميِّ …

-محمود درويش- 
                   



Scène de tribunal - Jean-Louis Forain



وأنا أهمُّ بفكِّ شيفرةِ بابِ الْغُرفَة، اكتشفتُ ضياع ذاكرتي. أنا لا أذْكرُ منْ أينَ أَتيتُ، أوْ إلى أيِّ مكانٍ سأمضي. ماذا كانتْ مُهمَّتي الَّتي أمرني بِها مساعدي اللَّطيف؟
كانَ هذا قبلَ سَنتيْن، وقدْ قرَّرت صياغَةَ قِصَّة ضياعِ الذَّاكرةِ، حتّى لا أفقِدَ الهويَّة والأنا.
أمسكتُ الوَرَقةَ يوم فُرِضَ عليَّ الصَّمتُ. فلَمْ أتحدَّثْ. لمْ أتحدَّثْ لشهورٍ، وربَّما لسَنواتٍ، لكنَّني لمْ أنْسَ قطُّ رنَّةَ أيٍّ منْ مُفرداتي الأثيرةَ ولا إيقاعَها. آخرُ ذِكْرايَ عنْ صَوْتي أنَّه لمْ يكنْ صالحًا للإنشادِ أو الغِناءِ. ولكنَّني إذْ أهمُّ بالكتابةِ، يَستفِزُّني مؤخَّرًا ذاتُ السُّؤالِ: لأيِّ شيءٍ سأكتبُ وذاكِرتي مُتوقِّفةٌ بدورِها لشهورٍ، وربَّما لسنواتٍ؟
سأكتبُ لذِكرى عالَمٍ موعودٍ.
هلْ يكونُ لذلكَ العالمِ منْ ماضٍ؟  أنا أعيشُ في ماضيهِ السَّحيقِ، ولا شكَّ. ولكنْ منْ دَمَّره؟  منْ ذا الَّذي أتاحَ انتِصارَ النَّوايا الطَّيبةِ؟ متى انهارَ الأغبياءُ الَّذين حَجَبوا ضوءَ الشُّروقِ ببراعةٍ؟ متى سُمحَ بالكلامِ للأخْيارِ والمُتَّهَمين؟ وأيُّ قاضٍ فاسدٍ هذا الَّذي نطقَ حُكمَ بَراءتِنا؟
هذِهِ رِسالةٌ يا سَيِّدي منْ هذا المَكَانِ حيثُ ضاعت ذَاكِرةُ الحيف والجَوْر ولمْ نَتَعمَّدْ نسيانَها.
(في مكتبِ قاضي التَّحقيقِ.)
المتهم الأول: هُم لمْ يَمْنَعوا الجُلوسَ بَعدُ أيُّها العَجوزُ، اخْترْ مقعدًا.
(يَتَحرَّكُ العجوزُ ببطءٍ، يتردَّدُ قَليلا، ثمَّ يجلِسُ.)
المتهم الأول: أخبِرْنا عنْ تُهمَتِك؟
العجوز: لا أذكرُ. مَتى أَلغوا اللِّباسَ المُوحَّدَ على المَساجينِ؟
المتهم الأول: وجدتُ الأمورَ هكذا حينَ دَخَلْتُ السِّجنَ.
(صمت.)
المتهم الثاني: سمِعتُهُم يتَحدَّثونَ عنْ بعضِ الأوراقِ المُصادَرةِ، (مُوَجِّهًا حديثهُ للعَجوزِ.) هلْ كُنتَ تَكتُبُ؟
العجوز: يَوْمَ فَرَضوا عليَّ الصَّمْتَ، أَمْسكتُ القلمَ والوَرَقَةَ، لمْ أنْطِقْ بكلمةٍ مُنْذ سنواتٍ.
(صمت.)
العجوز: أترى أيُّها الشّاب، ما زِلتُ أسْتطيعُ الحَديثَ. تِلكَ الكلماتُ لمْ يتوقَّفْ صَداها عنْ التَّرَدُدِ في جُمْجُمَتي. وحتَّى لا أفقِدَ موسيقاها، قُمْتُ بتدوينها.
المتهم الأول (ساخرا.): صَوْتُك هذا مُزعِجٌ بِحقٍّ، أتَّفقُ مَعَهُم لمرَّةٍ، إخراسُكَ كانَ ضَروريّا.
العجوز: لمْ أَزعمْ قطّ أنَّ صَوْتي صالحٌ للإنشادِ أوْ الغِناءِ، ولَمْ أكنْ أصرُخ، كنتُ أتحدَّثُ كَما الآنَ، بِلياقةٍ بورجوازيةٍ وصَوْتٍ خفيضٍ.
المتهم الأول: ولأيِّ شيءٍ كُنتَ تَكتُبُ؟
العجوز: لقدْ شَرَعَتْ ذَاكِرةُ كَلِماتي بالتَّلاشي، إِلى أنْ ضاعتْ تماما، وتَداعى بِها كلُّ أثرٍ عنْ أيِّ حَدَثٍ قبلَ ذَلكَ الَّيومِ.
(يصْمتُ لثوانٍ، وقبلَ أنْ يُواصلَ سردهُ للأَحداثِ.)
المتهم الثاني (برعب): اصمتْ أيُّها العجوز.
(يُسمَعُ دقُّ أقدامٍ قُربَ المَكْتبِ، يَقْترِبُ الصَّوْتُ شَيْئًا فَشَيْئًا، ثُمَّ يَتَوقَّفُ.)
(صمت.)
المتهم الأول: ليْسَ هذا بشيْءٍ. لا بدَّ أنَّهُ رَجُلُ أمنٍ، لَيسَ أكثَر.
(تَتَحَرَّكُ الأَقْدامُ قُرْبَ المَكْتبِ، ثمَّ تَبْتعِدُ بِسُرعةٍ كما لوْ كانَ صَوْتَ رَكْضٍ سريعٍ.)
المتهم الأول: لا تَخْشوا شَيْئًا. تَحَدَّث أيُّها العجوز.
العجوز (يَظْهَرُ مُفَكِّرًا.): لقد اخْتَرَعْتُ تاريخي اخْتِراعًا. اقْتَبَستُهُ مِن قُصاصاتِ الجَرائِدِ والرِّوايات... قُمْتُ بهذا حتّى لا أَفْقِدَ الهوية. أ ترى؟ أنا لا أذْكُرُ شَيْئًا على وَجْهِ التَّحْديدِ، يَقولونَ أنّني قَرَويٌّ مُزارِعٌ، (يُظهِرُ يَدَيْنِ لا تَبْدو عَلَيْهِما أيُّ خَدْشٍ قدْ يُشيرُ لأعمالَ يَدَوِيّة.) أمّا في ذاكِرَتي الجَديدة فَقَدْ كُنْتُ رِياضِيًّا أَجْني الكَثيرَ مِنَ المالِ.
المتهم الأول: كَذِبُك هذا يَبدو مُثيرًا أيُّها المَسْخُ.
العجوز: معَ أنَّني فَقدتُ ذاكرةَ الأَحْداثِ، إلا أنّ ذاكِرَةَ المَشاعِرَ لمْ تُغادِرْني إلى الآن، أنا أَتَذَكَّر يَوْمَ الضَّياعِ بِدِقَّةٍ كَبيرَةٍ. لقدْ أعْلَنتُ ذَلكَ الْيَوْمَ أَوّلَ يومٍ لِضَياعِ الذّاكِرَة. قَدْ يَكونُ هَذا حَقيقيًّا. لكنْ هلْ تَرى؟ قَدْ يَكونُ يَوْمَ فُقدانِ أََخي الأَكْبر.  
المتهم الثاني (مُقاطِعا إيّاه): تَبْدو عَلَيْكَ عَلاماتُ الثَّراءِ حقًّا.
العجوز (غَيْرُ مُهتمٍّ بكلامِهِ): لَكنَّني كَتَبتُ ذاكِرَتي الجَديدَةَ، حتَّى لا يُضَيِّعَها شيءٌ غَيْرُ النّار.
المتهم الأول والثاني معا: نيرانُ الحَقيقَةِ.
العجوز (مُرْتَبِكا): ما بِكُما؟
المتهم الأول: سَمِعْنا عنْ أَوْراقِكَ المُصادَرَة، كُنتَ تَكِتُبُ عَلَيْها كَلِمَتَيْنِ، عَشَراتِ المَرّاتِ.
العجوز: نيرانُ الحَقيقةِ.
المتهم الثاني: أيّا يكُن.
المتهم الأول: لقدِ تَأَخَّرَ القاضي.
العجوز: ماذا لَو كُنْتُ القاضي؟
المتهم الأول (ساخِرا): لِهذا أُلْغيَتْ بِذْلَةُ السُّجَناءِ، حَتى يَتَمَكَّنَ أيُّ مَسْخٍ وَضيعٍ مِثلَكَ مِنَ الكَذِب.
المتهم الثاني: لمْ أَسْمَع عنْ قاضٍ يتَحَدَّثُ أكثرَ مِمّا يُنْصِت.
(يَتَقَدَّمُ العَجوزُ صَوْبَ المَكْتبِ. يَخْلَعُ قَميصَهُ لِتَظْهَرَ خَلْفَهُ عَضَلاتٌ هَزيلَةٌ مِنْ مَلابِسِهِ الدّاخِليَّةِ النَّظيفَةِ.)
العجوز: لَسْتُ أَعْرِفُ، لَكِنَّ القاضي قَدْ يَكونُ أَحَدَنا، بَيْنَنا.
(ثُمَّ يُشيرُ العَجوزُ إِلى مَكَانٍ بِاتِّجاهِ بَابِ المَكْتَبِ، فَتُضاءُ الخَشَبَةُ لِيَظْهَرَ رَجُلان، أَحَدُهُما سَمينٌ، والآخرُ تَظْهَرُ عَلَيْهِ عَلاماتُ الخَبَلِ.)
السمين (غَيِرَ مُبالٍ.): مَعَكَ حَقٌّ.
(يَتَهامسُ المُتّهَمانِ، ثُمَّ يَبْتعِدانِ عنْ بَعْضِهِما الْبَعض. يَقْتَرِبانِ مُجَدَّدًا، ثُمّ يَتبادلانِ القَسَمَ.)
العجوز: أُقْسِمُ أنَّني لا أذْكُرُ كَوْني مِنَ الْقُضاةِ.
السمين: أُقسِمُ أنَّني لَسْتُ قاضِيًا.
الأبله: ولا أَنا. لَسْتُ بِقاضٍ.
(يَنْظُرونَ لِبَعْضِهم البعض، فَيُشيرونَ إلى العجوزِ الَّذي يُشيرُ بِدورِهِ إِلى السِّتارِ.)
(ستار.)





 : بقلم
Achraf Nihilista




الأحد، 18 مارس 2018

مشهد انهيار الأنظمة







الاستِقرارُ نعمةٌ لا تُدرِكها العقول، ولا تحِسّها الأرواح، ولا تنعمُ فيها الأجساد. سرعان ما سينهارُ استقرارٌ شُيِّدَ على كُثْبانِ الحقائقِ الخفيفةِ، وسيتداعى ذاك الَّذي أدركته طمأنينةٌ -زائفة- للحبّ، ونيرانُ الخمولِ المتقدة لا تُسعِفُ رجلاً بلغَ الاستقرار.
ذاتَ يومٍ ستنهارُ أنظمةٌ كبيرةٌ في مشهدٍ مهيب، ودويّ انهيارها سيصمُّ آذان الَّذين لطالما تباهوا بحِدَّة آذانهم.
سيقولون: كانَ على الأرضِ رجالٌ ابتلوا بشقاءِ أُذن حسَّاسةٍ لأدنى ضجيجٍ. ولم يصدمنا وَهنُهم المفاجئ الجديد، نحن أبناءُ الضّعف. وعلى ركامِ الأنظِمةِ السَّابقةِ، لمْ يستطِع الحسَّاسون بناءَ أنظمةٍ حديثةٍ لا تؤذي الآذانَ -ويا لتباهيهم بقدرتهم العجيبة على البناءِ-.
بعضُنا أيقظَهُ دويُّ الانفجارُ، وجُلُّنا لمْ يَسْتَيقِظ إلى الآن. أمَّا المحظوظونَ منّا فقدْ انهارتْ الجُدرانُ فَوْقَ رؤوسِهم، ولمْ يدركوا ما حدثَ بالفِعل، وفَرُّوا منْ محاسبةِ الشُّرطةِ الحَديثةِ للمسؤولين -مسؤولٌ كلُّ منْ نام، وكلُّ منْ استيقظ، وكلُّ من لم يدرك ما حدث.-
اليومَ صباحًا، شاهدنا رجالا آذانهُم كالحميرِ، بحماس مبالغٍ فيه يحملونَ الطّوب طوالَ الطَّريقِ، ورِجالا آذانُهم كالكلابِ، يتحسَّسونَ المكانَ، أمّا نحن، فلزمنا بيوتنا، لحالةِ الطوارِئ الّتي أعلنها البوليس بالأمسِ.
ولماذا سَنَخْرج؟ لا ماء، لا غذاء، لا دواء... لا مشكلة. قدْ نموتُ جوعا، عَطشا، أو مَرضا. 
سنموت.


بقلم: Achraf Nihilista