الثلاثاء، 19 يونيو 2018

ضد الماكيت





ضد الماكيت










ستجدون أسفله لائحة رغبات لن تتحقق كي لا أكف عن الغضب عندما أجد صدفة نصا يتجاوز توقعاتنا في التفاهة، يبهرنا بلا آدميته، يدنس روحنا، ويدفعنا لصفع مُرتكِبه لو وجد أمامنا.

لأنني لم أسمع موسيقى الحرية وأنا أقرأ بعض النصوص، سأجعل كتابها يسمعون صرخة عنف أنيق وهم يقرأون تدوينة تشبه مطرقة دون سندان، تؤذي ولكن لا تدمر.

لم أقابل صفاقة تعادل تلك التي يتمتع بها بعض الذين يلتزمون بموعد التسليم بأي ثمن. 
ولا يعادل في الرداءة نص ل"كاتب دوري" يكتب الرسائل المفتوحة والخمس نصائح.
العار كله لكاتب بخيال محدود مثل أدبه، ولكل روائي يتصور اللغة، ولكل شاعر لا يجرؤ على تكرار ذاته.

لا يحمل النص الأدبي جوابا إلا على سؤال واحد: أين إنسانيتك؟

أنا أهاجم كل أديب فاشل في الكذب، مؤمن بالفضائل الفاضحة للعمل، غير متذوق لحلاوة البصاق وقلة الاحترام.

أنا أهاجم كل من لا يحترم استرزاقه، ويهدره عبثا في منصات أدبية مقابل دريهمات.

أنا أهاجم كل من احترف لعبة "املأ فراغ الماكيت."

تهمتكم أيها العزيزون هي الجدية والاحترافية، نصوصكم تشبه البيانات أو مقالات الرأي، لست أتخيل بينكم شخصا يقهقه بينما يكتب، لست أرى بينكم شخصا ينظر لكلمته إلا بجفاف وتجرد.

لقد تجاوزتكم موضوعيتكم، وقضي الأمر.

معاييرنا تختلف. رسائلنا أيضا. وحتى لا أخلف وعدي، هذه لائحة رغباتي:
-أن تتجاوز العرض البليد للتواريخ والأحداث
-أن تكف الروايات عن كونها سيناريوهات معدة للإخراج
-ألا تشبه المقالات ثرثرة على هامش ندوة.





بقلم: Achraf Nihilista




الثلاثاء، 29 مايو 2018

عيد الخاسرين - مقتطف من مسرحية.




عيد الخاسرين - مشهد من مسرحي




أَنتِ حقيقتي ، وأَنا سؤالُكِ
لم نَرِثْ شيئاً سوى اسْميْنَا
وأَنتِ حديقتي ، وأَنا ظلالُكِ
عند مفترق النشيد الملحميِّ …

-محمود درويش- 
                   



Scène de tribunal - Jean-Louis Forain



وأنا أهمُّ بفكِّ شيفرةِ بابِ الْغُرفَة، اكتشفتُ ضياع ذاكرتي. أنا لا أذْكرُ منْ أينَ أَتيتُ، أوْ إلى أيِّ مكانٍ سأمضي. ماذا كانتْ مُهمَّتي الَّتي أمرني بِها مساعدي اللَّطيف؟
كانَ هذا قبلَ سَنتيْن، وقدْ قرَّرت صياغَةَ قِصَّة ضياعِ الذَّاكرةِ، حتّى لا أفقِدَ الهويَّة والأنا.
أمسكتُ الوَرَقةَ يوم فُرِضَ عليَّ الصَّمتُ. فلَمْ أتحدَّثْ. لمْ أتحدَّثْ لشهورٍ، وربَّما لسَنواتٍ، لكنَّني لمْ أنْسَ قطُّ رنَّةَ أيٍّ منْ مُفرداتي الأثيرةَ ولا إيقاعَها. آخرُ ذِكْرايَ عنْ صَوْتي أنَّه لمْ يكنْ صالحًا للإنشادِ أو الغِناءِ. ولكنَّني إذْ أهمُّ بالكتابةِ، يَستفِزُّني مؤخَّرًا ذاتُ السُّؤالِ: لأيِّ شيءٍ سأكتبُ وذاكِرتي مُتوقِّفةٌ بدورِها لشهورٍ، وربَّما لسنواتٍ؟
سأكتبُ لذِكرى عالَمٍ موعودٍ.
هلْ يكونُ لذلكَ العالمِ منْ ماضٍ؟  أنا أعيشُ في ماضيهِ السَّحيقِ، ولا شكَّ. ولكنْ منْ دَمَّره؟  منْ ذا الَّذي أتاحَ انتِصارَ النَّوايا الطَّيبةِ؟ متى انهارَ الأغبياءُ الَّذين حَجَبوا ضوءَ الشُّروقِ ببراعةٍ؟ متى سُمحَ بالكلامِ للأخْيارِ والمُتَّهَمين؟ وأيُّ قاضٍ فاسدٍ هذا الَّذي نطقَ حُكمَ بَراءتِنا؟
هذِهِ رِسالةٌ يا سَيِّدي منْ هذا المَكَانِ حيثُ ضاعت ذَاكِرةُ الحيف والجَوْر ولمْ نَتَعمَّدْ نسيانَها.
(في مكتبِ قاضي التَّحقيقِ.)
المتهم الأول: هُم لمْ يَمْنَعوا الجُلوسَ بَعدُ أيُّها العَجوزُ، اخْترْ مقعدًا.
(يَتَحرَّكُ العجوزُ ببطءٍ، يتردَّدُ قَليلا، ثمَّ يجلِسُ.)
المتهم الأول: أخبِرْنا عنْ تُهمَتِك؟
العجوز: لا أذكرُ. مَتى أَلغوا اللِّباسَ المُوحَّدَ على المَساجينِ؟
المتهم الأول: وجدتُ الأمورَ هكذا حينَ دَخَلْتُ السِّجنَ.
(صمت.)
المتهم الثاني: سمِعتُهُم يتَحدَّثونَ عنْ بعضِ الأوراقِ المُصادَرةِ، (مُوَجِّهًا حديثهُ للعَجوزِ.) هلْ كُنتَ تَكتُبُ؟
العجوز: يَوْمَ فَرَضوا عليَّ الصَّمْتَ، أَمْسكتُ القلمَ والوَرَقَةَ، لمْ أنْطِقْ بكلمةٍ مُنْذ سنواتٍ.
(صمت.)
العجوز: أترى أيُّها الشّاب، ما زِلتُ أسْتطيعُ الحَديثَ. تِلكَ الكلماتُ لمْ يتوقَّفْ صَداها عنْ التَّرَدُدِ في جُمْجُمَتي. وحتَّى لا أفقِدَ موسيقاها، قُمْتُ بتدوينها.
المتهم الأول (ساخرا.): صَوْتُك هذا مُزعِجٌ بِحقٍّ، أتَّفقُ مَعَهُم لمرَّةٍ، إخراسُكَ كانَ ضَروريّا.
العجوز: لمْ أَزعمْ قطّ أنَّ صَوْتي صالحٌ للإنشادِ أوْ الغِناءِ، ولَمْ أكنْ أصرُخ، كنتُ أتحدَّثُ كَما الآنَ، بِلياقةٍ بورجوازيةٍ وصَوْتٍ خفيضٍ.
المتهم الأول: ولأيِّ شيءٍ كُنتَ تَكتُبُ؟
العجوز: لقدْ شَرَعَتْ ذَاكِرةُ كَلِماتي بالتَّلاشي، إِلى أنْ ضاعتْ تماما، وتَداعى بِها كلُّ أثرٍ عنْ أيِّ حَدَثٍ قبلَ ذَلكَ الَّيومِ.
(يصْمتُ لثوانٍ، وقبلَ أنْ يُواصلَ سردهُ للأَحداثِ.)
المتهم الثاني (برعب): اصمتْ أيُّها العجوز.
(يُسمَعُ دقُّ أقدامٍ قُربَ المَكْتبِ، يَقْترِبُ الصَّوْتُ شَيْئًا فَشَيْئًا، ثُمَّ يَتَوقَّفُ.)
(صمت.)
المتهم الأول: ليْسَ هذا بشيْءٍ. لا بدَّ أنَّهُ رَجُلُ أمنٍ، لَيسَ أكثَر.
(تَتَحَرَّكُ الأَقْدامُ قُرْبَ المَكْتبِ، ثمَّ تَبْتعِدُ بِسُرعةٍ كما لوْ كانَ صَوْتَ رَكْضٍ سريعٍ.)
المتهم الأول: لا تَخْشوا شَيْئًا. تَحَدَّث أيُّها العجوز.
العجوز (يَظْهَرُ مُفَكِّرًا.): لقد اخْتَرَعْتُ تاريخي اخْتِراعًا. اقْتَبَستُهُ مِن قُصاصاتِ الجَرائِدِ والرِّوايات... قُمْتُ بهذا حتّى لا أَفْقِدَ الهوية. أ ترى؟ أنا لا أذْكُرُ شَيْئًا على وَجْهِ التَّحْديدِ، يَقولونَ أنّني قَرَويٌّ مُزارِعٌ، (يُظهِرُ يَدَيْنِ لا تَبْدو عَلَيْهِما أيُّ خَدْشٍ قدْ يُشيرُ لأعمالَ يَدَوِيّة.) أمّا في ذاكِرَتي الجَديدة فَقَدْ كُنْتُ رِياضِيًّا أَجْني الكَثيرَ مِنَ المالِ.
المتهم الأول: كَذِبُك هذا يَبدو مُثيرًا أيُّها المَسْخُ.
العجوز: معَ أنَّني فَقدتُ ذاكرةَ الأَحْداثِ، إلا أنّ ذاكِرَةَ المَشاعِرَ لمْ تُغادِرْني إلى الآن، أنا أَتَذَكَّر يَوْمَ الضَّياعِ بِدِقَّةٍ كَبيرَةٍ. لقدْ أعْلَنتُ ذَلكَ الْيَوْمَ أَوّلَ يومٍ لِضَياعِ الذّاكِرَة. قَدْ يَكونُ هَذا حَقيقيًّا. لكنْ هلْ تَرى؟ قَدْ يَكونُ يَوْمَ فُقدانِ أََخي الأَكْبر.  
المتهم الثاني (مُقاطِعا إيّاه): تَبْدو عَلَيْكَ عَلاماتُ الثَّراءِ حقًّا.
العجوز (غَيْرُ مُهتمٍّ بكلامِهِ): لَكنَّني كَتَبتُ ذاكِرَتي الجَديدَةَ، حتَّى لا يُضَيِّعَها شيءٌ غَيْرُ النّار.
المتهم الأول والثاني معا: نيرانُ الحَقيقَةِ.
العجوز (مُرْتَبِكا): ما بِكُما؟
المتهم الأول: سَمِعْنا عنْ أَوْراقِكَ المُصادَرَة، كُنتَ تَكِتُبُ عَلَيْها كَلِمَتَيْنِ، عَشَراتِ المَرّاتِ.
العجوز: نيرانُ الحَقيقةِ.
المتهم الثاني: أيّا يكُن.
المتهم الأول: لقدِ تَأَخَّرَ القاضي.
العجوز: ماذا لَو كُنْتُ القاضي؟
المتهم الأول (ساخِرا): لِهذا أُلْغيَتْ بِذْلَةُ السُّجَناءِ، حَتى يَتَمَكَّنَ أيُّ مَسْخٍ وَضيعٍ مِثلَكَ مِنَ الكَذِب.
المتهم الثاني: لمْ أَسْمَع عنْ قاضٍ يتَحَدَّثُ أكثرَ مِمّا يُنْصِت.
(يَتَقَدَّمُ العَجوزُ صَوْبَ المَكْتبِ. يَخْلَعُ قَميصَهُ لِتَظْهَرَ خَلْفَهُ عَضَلاتٌ هَزيلَةٌ مِنْ مَلابِسِهِ الدّاخِليَّةِ النَّظيفَةِ.)
العجوز: لَسْتُ أَعْرِفُ، لَكِنَّ القاضي قَدْ يَكونُ أَحَدَنا، بَيْنَنا.
(ثُمَّ يُشيرُ العَجوزُ إِلى مَكَانٍ بِاتِّجاهِ بَابِ المَكْتَبِ، فَتُضاءُ الخَشَبَةُ لِيَظْهَرَ رَجُلان، أَحَدُهُما سَمينٌ، والآخرُ تَظْهَرُ عَلَيْهِ عَلاماتُ الخَبَلِ.)
السمين (غَيِرَ مُبالٍ.): مَعَكَ حَقٌّ.
(يَتَهامسُ المُتّهَمانِ، ثُمَّ يَبْتعِدانِ عنْ بَعْضِهِما الْبَعض. يَقْتَرِبانِ مُجَدَّدًا، ثُمّ يَتبادلانِ القَسَمَ.)
العجوز: أُقْسِمُ أنَّني لا أذْكُرُ كَوْني مِنَ الْقُضاةِ.
السمين: أُقسِمُ أنَّني لَسْتُ قاضِيًا.
الأبله: ولا أَنا. لَسْتُ بِقاضٍ.
(يَنْظُرونَ لِبَعْضِهم البعض، فَيُشيرونَ إلى العجوزِ الَّذي يُشيرُ بِدورِهِ إِلى السِّتارِ.)
(ستار.)





 : بقلم
Achraf Nihilista




الأحد، 18 مارس 2018

مشهد انهيار الأنظمة







الاستِقرارُ نعمةٌ لا تُدرِكها العقول، ولا تحِسّها الأرواح، ولا تنعمُ فيها الأجساد. سرعان ما سينهارُ استقرارٌ شُيِّدَ على كُثْبانِ الحقائقِ الخفيفةِ، وسيتداعى ذاك الَّذي أدركته طمأنينةٌ -زائفة- للحبّ، ونيرانُ الخمولِ المتقدة لا تُسعِفُ رجلاً بلغَ الاستقرار.
ذاتَ يومٍ ستنهارُ أنظمةٌ كبيرةٌ في مشهدٍ مهيب، ودويّ انهيارها سيصمُّ آذان الَّذين لطالما تباهوا بحِدَّة آذانهم.
سيقولون: كانَ على الأرضِ رجالٌ ابتلوا بشقاءِ أُذن حسَّاسةٍ لأدنى ضجيجٍ. ولم يصدمنا وَهنُهم المفاجئ الجديد، نحن أبناءُ الضّعف. وعلى ركامِ الأنظِمةِ السَّابقةِ، لمْ يستطِع الحسَّاسون بناءَ أنظمةٍ حديثةٍ لا تؤذي الآذانَ -ويا لتباهيهم بقدرتهم العجيبة على البناءِ-.
بعضُنا أيقظَهُ دويُّ الانفجارُ، وجُلُّنا لمْ يَسْتَيقِظ إلى الآن. أمَّا المحظوظونَ منّا فقدْ انهارتْ الجُدرانُ فَوْقَ رؤوسِهم، ولمْ يدركوا ما حدثَ بالفِعل، وفَرُّوا منْ محاسبةِ الشُّرطةِ الحَديثةِ للمسؤولين -مسؤولٌ كلُّ منْ نام، وكلُّ منْ استيقظ، وكلُّ من لم يدرك ما حدث.-
اليومَ صباحًا، شاهدنا رجالا آذانهُم كالحميرِ، بحماس مبالغٍ فيه يحملونَ الطّوب طوالَ الطَّريقِ، ورِجالا آذانُهم كالكلابِ، يتحسَّسونَ المكانَ، أمّا نحن، فلزمنا بيوتنا، لحالةِ الطوارِئ الّتي أعلنها البوليس بالأمسِ.
ولماذا سَنَخْرج؟ لا ماء، لا غذاء، لا دواء... لا مشكلة. قدْ نموتُ جوعا، عَطشا، أو مَرضا. 
سنموت.


بقلم: Achraf Nihilista


الأحد، 17 سبتمبر 2017

بليز باسكال: حول بؤس الإنسان. -الجزء الثالث والأخير-




بليز باسكال




لهذا، حينَ قالَ سينيا لبيروس الَّذي كانَ يسعى للرَّاحةِ مع أصدقائِهِ بعْدَ احتلالِه أجزاءَ كبيرةً منَ العالمِ، أنَّ عليهِ البَحثَ عنْ سعادتِه في ذاتِهِ بدلَ أنْ يبحثَ عنها بعدَ هذا الكمِّ الهائلِ من الجُهدِ، لقد كان سينيا هنا يُسدي لهُ نصيحةً لمْ يتقبَّلْها. بلْ إنَّ هذهِ النَّصيحة لمْ تَكُن أكثرَ وجاهةً مِنْ مشروعِ الشَّاب الطَّموحِ بيروس. إذْ اعتبرَا معًا أنَّ الإنسانَ يُمكنُ أنْ يكتفي بذاتهِ وخيراتهِ، دونَ أنْ يملأَ فراغَ قَلْبهِ بآمال خياليَّة: يا له منْ خطإ جسيمٍ! فبيروس لمْ يَكن ليصيرَ سعيدًا لا قبلَ احتلالِ العالمِ ولا بعدهُ. ربَّما كانت الحياةُ الرَّغيدةُ الَّتي اقترحَها عليهِ وزيرهُ أقلَّ قدرةً على إغراءِهِ منْ مشاغلِ الحُروبِ والأسفارِ الَّتي سيتأمَّلُ خلالها.
علينَا أنْ نعترفَ إذنْ أنَّ التعاسةَ بلاءٌ مكتوبٌ على الإنسانِ بحيثُ قدْ يضجرُ دونَ أيّ سببٍ خارجيّ، بلْ حالتهُ الطَّبيعية كفيلةٌ لوحدِها بجعلهِ ضجِرًا: هوَ بالتَّالي ضعيفٌ وخفيفٌ للغايةِ، بحيثُ أنَّه أمام ألفِ سببٍ جوهري للضجر، يكفي أقلُ أمرٍ تافهٍ ليرفِهَ عنه. وإذا فكّر في هذا بجديّةْ، سيَتَذمرُ من كونِهِ يُرفِهُ عن ذاته بأشياءَ سطحيةٍ وحقيرةْ، أكثرَ مما يَتذمَرُ من مآسيه الحقيقية؛ وهذه الترفيهاتُ هي أقلُ وجاهةً ألف مرة من ضجره.
كيفَ لرجلٍ فَقَدَ ابنه الوحيد، وبعد أن كان في الصباح يبكي ويلعن قدره، كيف له أن يضحك في المساء؟ لا تستغربوا! إنه الآن مشغولٌ بمحاولةِ تخمينِ المكانِ الذي سيهرب منهُ الأيلُ الذي تطارده كلابه منذ ستّ ساعات.
لا يلزمُ أكثر من ذلك للانسان، مهما كان كَرَبُه عظيما. إذا نجحنا بالترفيه عنه مؤقتا، سَنَراه سعيدا لذلك الوقت، ولكنها سعادةٌ مزيفةٌ ووهمية، لأنها لا تأتي من امتلاك شيءٍ مادي وحقيقي، ولكن فقط من خفّةِ رُوحِهِ التي تُنسيه ذكرى معاناتِهِ الحقيقية، لتَرْبِطهُ بأشياءَ بخسةٍ وتافهة، لا تستحق أن يَتَورطَ فيها. إنّها لغِبطةٌ مرضيةٌ ومسعورة، لأنّها لا تَدُلّ على صِحّةِ رُوحِهِ وإنّما على اخْتِلالِها. إنّه يَضحكُ ضِحْكَةَ خُبْلٍ ووَهم. لأنّه أمرٌ غريبٌ أن تُفكّرَ فيما يُعجبُ الإنسانَ في الّلعب واللهو. وعلينا الاعتراف أنّها بِشَغْلها للنّفس، هِي تُلهيهِ عن آلامه، وهو أمرٌ حقيقي، ولكنّ هذا لا يَحدثُ إلاّ لأنّ العقلَ يَصنعُ موضوعا وهميا لِشَغفهِ، فَيتشبّتَ به.
ما هَدفُ أُولئكَ الّذينَ يَلعبونَ كرة المضربِ في رأيكم، بِتَركيزٍ كبيرٍ وانهماكٍ جسدي أكبر؟ إنّ غرضهم هو التّباهي أمامَ أصدقائهم في اليوم الموالي بأنّهم لعبوا أفضلَ من المنافس، وهذا سرّ ارتباطهم بالّلعب. والأمرُ سيّان بالنّسبة لأولئك الّذين يَعرقونَ في مكاتبهم، لِيُظهروا للعلماءِ أنّهم قد حلّوا مَسْألةَ جَبرٍ مُعَقّدة لمْ تُحلّ قبلَ ذلك من قبل. وهُوَ أيْضا حالُ أولئك الّذين يُعَرّضونَ أنفسهم لِمخاطرَ هُمْ في حلّ عنها، لِيَتباهوا أنّهم بمكانةٍ لم يَستطع غيرُهم بُلوغَها، بشكلٍ يوحي بالبلاهة في رأيي. وبالنهاية، هناك أولئك الّذين يَستهلكون ذواتَهم لملاحظةِ كلّ هذه الأمور، لا ليكتسبوا منها الحكمةَ، وإنّما فقط لِيتباهوا بأنّهم أدركوا عَبَثها: وهؤلاء هُمْ الأكثرُ خَبَلاً، لأنّهم مخبولونَ رغمَ معرفتهم. كان حَرِيًّا بهم عَدم التفكيرِ بأَحدٍ إذ امتلكوا هذه المعرفة.
ذاك الّذي يَمضي حياته بِلَا ضجرٍ في الّلعبِ والمراهنةِ كُلّ يومٍ بأشياءَ قليلة، سيغدو تعيسا إنْ مَنَحناهُ كُلّ يومٍ ما يَكسبُهُ شريطَةَ ألّا يلعب. قد َنعتقدُ أنّه يَبحثُ عن متعةِ الّلعبِ وليس الربح. ولكنّه إذا لَعبَ منْ أجلِ لا شيء لَنْ يَتحمّسَ أبدا، وسَيملّ. هو لا يَبْحثُ عَن الّلعب وَحْده إذا: لأنّ مُتعةً مستمرةً وبِلا حماس سَتشعرهُ بالضجر.  يَنبغي أنْ يَتَحمّسَ وأنْ يُحَفّزَ نَفسه، عَبْر تَخَيّلِ أنّه سيَصير سعيدا بِربحٍ ما كان لِيَرفُضَ أخْذهُ شَريطَةَ ألّا يَلعب. إنّه يَصنعُ لِذاته موضوعَ شغفٍ يُثير رغبته، غضبه، ذُعره وأمانيه.
وهكذا، فإّن ما يُرَفّهُ عَن الإنسان ليس فقط أمورا خسيسةً، هي أيضا مُخادعةٌ ومزيفة. أيْ تَرْتكِزُ على أوهامٍ وخدع، لمْ تَكُن لِتَشْغَلَ عَقْلهُ لو لَمْ يَفْقِدْ حِسّ وطَعْمَ الخير الحقيقي. ولو لمْ تَكُن رُوحُه قد امْتَلَأتْ خسّة، تفاهة، خفّة وكبرا وعِدّةَ مَثالِبَ أخرى. هذه الأمور لا تُخَفّفُ بؤسنا إلّا ِلتَصْنعَ بُؤسا وشقاءً أَكثرَ حضورا وواقعية، لأنّها ما يَمْنَعُنا حقّا منَ التفكيرِ بِذواتِنا، ويَجعلنا نَضَيّعَ وقتنا هباءً. دونها، كنّا سَنَملّ، وهذا الضّجَرُ كان سَيَبحثُ عن مَخارجَ حقيقية. ولكنّ الترفيهَ يَخْدعنا، يُسلّينا، ويَرمي بنا بِلَا إدراكٍ إلى الموت.
لمّا عَجزَ الإنسان عن علاجِ الموتِ والبؤس والجهل، ارتأى ألاّ يُفكّر بها، لِيَصيرَ سعيدا؛ إنّ النسيانَ هو كلّ ما اخترع الانسان لِيُعزّي نفسهُ أمام كلّ هذه الآلام. يا لَهُ من عزاءٍ شقي. لأنّه لا يُشْفي الآلام، بَلْ يُخْفيها لبعضِ الوقت، وهو إذْ ذاكَ لا يَجعلُنا نُعالِجُها حقّا. وهكذا، بَعْدَ تَحْويلِ طبيعةِ الإنسان، صار الضّجرُ، الّذي كان مَأساتهُ الحقيقية، خَيْرَ حَليف له بطريقةٍ ما، لِأنّه يَجْعَلهُ يَبحثُ عَنْ حَلّ حقيقي. والترفيهُ الّذي كان يَنْظُرُ له كَحَليفٍ صار الشّرَ المُحْدِقَ به، لأنّه يُبْعِدُهُ أكثر منْ أيّ شيءٍ آخرَ عَنِ البَحثِ عَنْ عِلاجٍ لآلامِه. وهذا دليلٌ على بُؤسِ الإنسانِ وفَسادِه، وهو كذلك دليل على عَظَمتِه. لأّن الإنسانَ لا يَضْجَرُ مِنْ كُلّ شيءٍ ولا يَبْحَثُ في كلّ شيءٍ عَنْ مَشاغِلَ مُحْتَملة، إلّا لأنّ فِكرةَ السّعادةِ الضّائعةِ تَشْغلُ باله. وهذه السّعادةُ الّتي لَمْ يَجِدها داخِله، يَبْحثُ عنها بِلَا جدوى في أشياَءَ خارجية، دون أَنْ يَستطيع تَلْبِيَتَها، لأنّ السّعادةَ لَيست داخِلنا، ولا في باقي المخلوقات، وإنّما في الرّبِ وَحْدَه.


-تم-


ترجمة: Achraf Nihilsta & ياسين الحيلي



الأربعاء، 30 أغسطس 2017

بليز باسكال: حول بؤس الإنسان. -الجزء الثاني-




بليز باسكال






أَلَيْسَت الكرامةُ الملكيَّةُ عظيمةً في ذاتِها، بِحيثُ تَجعلُ الَّذي يَمتلِكها سعيدًا بمجرَّدِ النَّظرِ لما هوَ عليهِ؟ أيجبُ إلهاؤُه عنْ هذهِ الفِكرةِ مثلَما هوَ الحالُ بالنِّسبةِ للعوامّ؟ أنَا أرى جيِّدًا أنَّ جعلَ الإنسانِ سعيدًا، يكونُ في صرْفِ نظرِه عنْ بُؤسهِ اليوميّ، حتَّى يشغلَ فِكرَهُ كاملاً بالانشغالِ بالرَّقصِ الجيِّد. ولكنْ هلْ سَيبلغُ دَرجةَ الملوكِ؟ وهلْ سيكونُ أكثرَ سعادةً في علاقتِه بتسليتِه التَّافهةِ أكثرَ منْ التَّفرسِ في مشهدِ عَظَمتِه؟ ما هوَ أكثَرُ شيءٍ مقبولٍ يمكنُ أن تنالَ روحهُ، ألنْ يكونَ في هذَا كبحًا لسعادتِهِ وانشغالاً لرُوحهِ عن التفكيرِ في ضبطِ خطواتِهِ على إيقَاع حالةٍ أو وضعٍ ما بشكلٍ مُتقنٍ، بدلَ تركهِ مستَمتِعًا في سكينةٍ تأملّ العظمةِ المُستفيضةِ المحيطةِ بهِ؟ عندمَا نخوضُ التَّجربة، ونتركُ ملكًا لوحدِهِ، بدونِ إرضاءٍ لحواسِّه، بدونِ حرصٍ على روحِه، وبدونِ رفقةٍ، مفكرًا في ذاتهِ فقطْ، سَنرى أنَّ ملكًا تأملَّ في نفسِهِ هوَ رجلٌ بئيسٌ أيضًا، تَمامًا كغيرِهِ منَ الرِّجالِ. وحتَّى بتفادِي هذَا بعنايةٍ، سَيَتواجدُ دائمًا بجانبِ الملوكِ عددٌ كبيرٌ من المرافقينَ، هَمُّهم تسليةُ الملوكِ بعدَ مشاغلِهم، مهمَّتُهُم ملاحظةُ أوقاتِ الفراغِ وملؤُها بما لذَّ من المُتعِ والألعابِ، حتَّى لا يبقَى ثمَّةَ منْ فراغٍ. أيْ أنَّهم محاطون بأشخاصٍ مهتمُّون للغايةِ ألاَّ يبقَى الملكُ وحيدًا، في حالةِ تأمُّلٍ ذاتيّ، علمًا منهم أنَّه عرضةٌ للبؤْسِ، فكلُّ ملكٍ تعيسٍ هوَ ملكٌ فَكَّرَ في ذاتِهِ.
إنَّ الشَّيءَ الجَوْهريَّ الَّذي يدعمُ الإنسانَ أمامَ أهوالِه الكُبرى والمُعَذِّبة، هوَ أنَّه يُصْرَف عنِ التفكيرِ في ذاتِهِ دائمًا. احذروا من هذَا!
ماذَا يعني أنْ يكونَ المرءُ رئيسًا، وزيرًا أو حتّى وزيرًا أوّل، غيرَ أنْ يمتلِك عددًا من النَّاسِ المحيطينَ بهِ من كلِّ جانبٍ، مُهِمَّتُهم ألاَّ يترُكوا لهُ ولَوْ ساعةً واحدةً في اليَومِ حيثُ يمكنُ أنْ يفكِّر في ذاتِه؟ وعندمَا يَفقِد الملوكُ عزيمتَهُم، ويُبعَث بهم إلى منازلِهم في الأريافِ، حيثُ لا ينقُصُهُم لا الخيراتُ ولا الخدمُ ليُوفرُوا حاجياتهِم، وحتى لا يتركوا لهُم الفُرصةَ ليُصبحوا تُعسَاءَ، لغيابِ المانعِ من التَّفكيرِ في الذَّات.
مِنْ هُنا جاءَ انشغالُ عدَدٍ منَ الأشخاصِ بالألعابِ والقَنْصِ ووَسائِلِ التَّرفيهِ الأُخرى الَّتي تشغلُ حيِّزًا كبيرًا في روحِهِم. ليسَ لأنَّ هنالكَ سعادةً فيمَا يمكنُ الحصولُ عليهِ في هذهِ الألعابِ، ولا في تصوُّرِ الغِبطةِ الحقيقيَّةِ في المالِ الَّذي يُمكنُ جَنْيُهُ منَ المُراهناتِ، أوْ في الأرنَبِ البريّ الَّذي يَقتنِصونَهُ. لنْ نرغبَ بهذَا الأرنبِ أو هذَا المَالِ لَوْ كانَ مَمْنوحًا دونَ جُهدٍ، ليسَ هذا الاستعمالُ الرَّخوُ والسَّلبيّ، الذي يجعلُنا نُفكِّر في وَضْعيَّتنا التَّعيسةُ، هو ما نبحثُ عَنْه في التسلية. ولكنّ الهمّ هو الَّذي يَصرِفُنا عنِ التفكيرِ في ذَواتِنا.
مِنْ هنا جاءَ حبُّ الإنسانِ للصَّخبِ والضَّوضاءِ في العالمِ. فالسِّجنُ بالنِّسبةِ لهُ عقوبةٌ مريعةٌ، وثمَّة القليلُ من النَّاسِ فقطْ مَن يقدرونَ على معاناةِ العُزلةِ.
هذا كلُّ ما تمكَّن الإنسانُ مِن خلقِه ليُسعدَ نفسهُ. والَّذينَ يَتسلَّوْن بإظهارِ تفاهةِ وانحطاطِ تسليةِ الإنسانِ، يعرفونَ جيِّدًا حقيقةَ جزءٍ منْ بُؤسهم؛ لأنَّه بؤسٌ أكبرُ منَ القدرةِ على التَّسليةِ بأشياءَ خسِّيسةٍ وكريهةٍ: لكنَّهم لا يُدركونَ الجَوْهرَ الَّذي يجعلُ بؤسهم ضروريًّا، ما لم يَسْلَموا منَ البُؤْسِ الدَّاخليّ والطبيعيّ الَّذي يَشْترطُ عدمَ القُدرةِ على معاناةِ النَّظرِ إلى الذَّاتِ. لَو أنَّ شخصًا اشترى هذَا الأرنبَ البريّ، ما كانَ ليمنعَ عنْهُ الرُّؤيةَ؛ ولكنَّ القَنصَ يمنعُها. وحينَ نلومهُ على ذلك، أيْ على بحثِهِ المُستميثِ الَّذي لنْ يُرضيه، وأنَّه ليسَ ثمَّةَ ما هوَ أتفهُ وأدنى ممَّا يبحثُ عنهُ، لوْ أنَّ استجابتهُ كانتْ سليمةً ومُفَكَّرًا فيها، لَوافقَ: ولكنَّهُ يَعْترِضَ قائلاً أنَّه لا يبحثُ سوى عنْ ملهاةٍ عنيفةٍ وشديدةٍ ليصرفَ نَظره عن ذاتهِ، ولهذا يَقترِحُ على نفسِه شيئًا جذُّابا يُغريهِ ويَشْغلُ وَقتَهُ. ولَكنَّهُ لا يُجيبُ حتَّى بذلكَ، لأنَّه لا يَعرِفُ نفسهُ. إنّ رجلًا نبيلًا يعتقِدُ صراحةً بوجودِ شيءٍ عظيمٍ ونبيلٍ في القَنصِ: سيقولُ أنَّها مُتعةٌ ملكيَّة. تمامًا مِثلَ باقي الأمورِ الَّتي تشغلُ النَّاسَ. نحنُ نَتخيَّلُ بلوغَ شيءٍ صلبٍ وحقيقيٍّ فيما نبحثُ عنْه، نُقنعُ أنفسنا أنَّنا إذا ما بلغناهُ، سَنرتاحُ مُستَمْتِعينَ: ولا نُدرِكُ طبيعتَنا الجَشِعةَ وصَعبةَ الإرضاءِ. نَعتقِدُ أنَّنَا نَبحَثُ بحقٍّ عن السَّكينةِ، ولكنَّنَا لا نَبْحثُ في الحقيقةِ إلاَّ عن الاضطِرابِ.
يَمتلِكُ الإنسانُ غريزةً سِرّيةً تجعلهُ يَبحثُ عنْ التَّرفيهِ والانشغالِ في الخَارِجِ، والَّتي تنبعُ من الإحساسِ الدَّائمِ بِبُؤسهِ الأبديّ. ويملِكُ غريزةً أُخرى، سِرّيةٌ بِدَورِهَا، استمرَّت مَعهُ مُنذُ حالَتِهِ الطَّبيعيَةِ الأولى، تَجْعلُهُ هذهِ الغَريزةُ يعلمُ أنّ السَّعادةَ لا توجدُ خارِجَ حالةَ السَّكينةِ. وَمِنْ هاتَيْنِ الغريزتَيْنِ المُتَضادَّتَين، يَتشكَّلُ مَشروعٌ ضبابيٌّ يَتوارى عنْ نَظرهِ في جوهرِ روحهِ، والَّذي يَجعلهُ يَرْنو للسَّكينةِ عبرَ الاضْطرابِ، ولِيُدركَ دائمًا أنَّ الرِّضى الَّذي فَقَدَهُ سَيَستَرجِعهُ إذَا تَجاوزَ بعضَ المصاعِبِ الَّتي تقفُ في الطَّريقِ، عِندَها يُمكنُ أنْ يَقْتحمُ أبوابَ السَّكينةِ.

وهَكذا تُهدَرُ الحَياةُ كُلّها. نَبْحثُ عنِ السَّكينةِ عبرَ تَجاوزِ بَعضِ العَقباتِ، وما إنْ نَتجاوُزهَا، حتَّى تغدو السَّكينة ذاتها غيْرَ محتملةٍ. إمَّا أنْ نُفكِر بالمآسي الَّتي أصابتْنا، أو تِلك المُحدِقَةُ بنا. وحتَّى حينَ نَعْتقدُ أنَّنَا مُحصَّنونَ مِنْ ذلكَ كلِّه، لَنْ يَتركَ الضَّجرُ فُرصَتَهُ ليَسْتعرِضَ نُفوذَهُ وتَجَبُّرَهُ، ويَخرُجَ مِنْ أعماقِ القَلْبِ حَيْثُ تَمْتدُ جُذورُه، ليَدُسَّ بالعَقْلِ سُمُومَه.



... يُتبَع



ترجمة: Achraf Nihilista & ياسين الحيلي




السبت، 19 أغسطس 2017

بليز باسكال: حول بؤس الإنسان. -الجزء الأول-




توطئة سريعة: هذه ترجمة نص "بؤس الإنسان - Misère de l'Homme" للمفكر الفرنسي بليز باسكال، وهي ترجمة مشتركة مع صديق المدونة ياسين الحيلي، وسننشر هذا النص على أجزاء.

باسكال، بليز.





لا يُمكن لشيءٍ وضعنا على طريقِ إدراكِ بُؤس الإنسانِ غير معرفةِ السَّببِ الحقيقيّ وراءَ حالةِ الاضطرابِ المستمرّ الَّتي يقضي بهَا حياتَه.
لقد أُلقيَت الرُّوح في الجسدِ لتَمكثَ فيه لوقتٍ قصير، وتعرف أنّ الجسدَ ليسَ إلا معبرًا نحو رحلةٍ أبديّة. كما أنها لا تملِكُ من الزّمن سوى القليلِ قبل أنْ تنفصلَ عنه، إذ إنّ الضروراتِ الطبيعيةَ تنزعُ من الزمنِ قسطًا كبيرًا. ولا يبقى لها سوى القليلِ من الزمنِ المُتاحِ للذَّات. لكنّ هذا القليلَ المتبقي عسيرٌ للغاية، ويُضايقها على نحوٍ غريب، حتى إنَّها لا تفكر إلاَّ بمضيه. إنَّه لعذابٌ عظيمٌ أن يضطرَّ المرءُ لقضاءِ الوقتِ مع نفسه، مفكرًّا في ذاته. وهو، إذْ ذاكَ، لا يحرصُ على شيءٍ قدرَ حرصهِ على نسيانِ نفسِه، وتركِ الوقتِ، القصيرِ والثَّمينِ، يُهدر دون تفكيرٍ، مهتمًّا بأمور تشغلهُ عن التَّدبر فيه.
إنَّه أصلُ كلِّ المشاغل المَرَضِيَّةِ للإنسانِ، ولكل ما ندعوه ترفيهًا أو مضيعةً للوقت، حيثُ لا غرضَ لنا منها إلا تركُ الوقت يمضي دون الإحساسِ به، أو بالأحرى دون أن نستشعرَ به ذواتنا. كما نسعى من خلال فقدان هذا القِسطِ من حياتنا إلى تفادي المرارةِ والقَرفِ الداخلي الَّذي يُصاحبُ حتمًا الاهتمامَ الَّذي كنَّا نصُبُّه على أنفسنا خلالَ هذا الوقتِ. لا تجدُ الرّوح في ذاتِها ما يرضيها، بل ولا ترَى إلا ما يُكْرِبها حين تفكِّر في الأمرِ.  وهذا ما يُجبرها على الانفلاتِ خارجًا، والبَحثُ عن فقدانِ ذكرى حالتِها الحقيقيَّة من خلالِ الانهماكِ في الأمورِ الخارجيّة. فغبطتُها تكمنُ في هذا النّسيان؛ ويكفي جعلُها ترى ذاتَها وتكونَ معها، لتُصبحَ بئيسةً.
إنّنا نُحَمِّل الإنسانَ منذُ الصِّبى عبءَ صَوْن كرامتِه وثرواتِه، بلْ وحتّى خيراتِ وكرامةِ أسلافِه وأصحابِه، ونُكَبِّلُه بدراسةِ اللُّغاتِ، العلومِ، الرِّياضةِ والفنون. نُكلِّفهُ بمشاغلَ شتَّى: نُفْهِمُه أنَّه لنْ يصيرَ سعيدًا إذَا لم يحرص بمجهودهِ وعنايتِه على صَوْنِ ثروتِه وشرفِه، وكذا ثروةِ وشرفِ أصدقائه، وأنَّ اختلالَ أيٍّ منْ هذه الأشياءِ سيردي بهِ تعيسًا. وهكذا، نَشْغَلُه بأعباءَ ومهامَ تُؤْرقُه من مطلعِ الفجر. ستقولون: "يا لَها مِن طريقةٍ غريبةٍ لجعلهِ سعيدًا!" ما الّذي يمكنُ فعلهُ إذن لجعلِه تعيسًا؟ اسألوا أنُفسكُم ما الّذي يُمكنُ فِعلُه! لا ينبغي سوى إزالةِ هذا الحملِ عن كاهلهِ. لأنَّه، مذ ذاك، لنْ يرى ويفكرَّ إلا بذاتهِ، وهذا ما لا يمكنُه بأيِّ شكلٍ تحملُّه. وحتَّى إنْ تَبقَّى لهُ بعضُ الفراغِ بعدَ كلِّ تلكَ الأعباءِ الَّتي تَحَمَّلها، سيحرصُ على تضييعهِ في التَّرفيه الَّذي يَشغلُه ويسرقُه بدورِه من ذاتِه.
وعليهِ، كلَّما انشغلتُ بمختلفِ اضطراباتِ الإنسانِ، وأزماتِهِ والمخاطرِ الَّتي يتعرَّضُ لها في ساحةِ المعركةِ، سعيًا وراءَ رغباتٍ طموحةٍ تُولِّدُ صِراعاتٍ وأَهْواءَ ومشاريعَ خطيرةٍ ومُؤذِيةٍ؛ قلتُ أنَّ الشَّرَ الَّذي يَلحقُ الإنسانَ يَأتي منْ عدمِ قدرتِه على البقاءِ مرتاحًا في غرفةٍ. إنَّ شخصًا يملِكُ ما يكفي لسدِّ حاجاتِه، إذَا عرفَ كيف يبقى معَ نفسِه، فلنْ يغادرِها أبدًا إلى البحرِ أو إلى أيِّ مكانٍ آخرَ: وإذَا كنَّا نبحثُ فقطْ عنِ العيشِ ببساطةٍ، عِندها لنْ نحتاجَ للقيامِ بكلِّ تلكَ المشاغلِ الخطيرةِ.
ولكنْ حينَ نظرتُ عن كَثَبٍ، وجدتُ أنَّ بُعدَ الإنسانِ عن السَّكينةِ، وصعوبةَ البقاءِ مع ذاتِه، يأتي منْ سببٍ فعليٍّ، إذْ يعودُ إلى شرِّ وضعِنا الطَّبيعي الضعيفِ والفاني، ولبُؤسِنا الَّذي لا عزاءَ لنا فيه حينَ لا يمنعُنا شيءٌ عن التّفكيرِ بهِ، وحين لا نرى شيئًا إلاَّ ذواتَنَا.
لا أتحدَّثُ إلُا عنْ أولئِك الَّذين ينظرون لذواتِهِم بغَيْرِ منظَارِ الدِّين. إنَّه لمِن مُعجزاتِ المَسيحيَّة، في حقيقةِ الأمرِ، أنَّها تُصالِحُ الإنسانَ معَ ذاتِه، عبرَ مصَالحتِه مع الرَّب؛ كما تجعلُ التَّفرُسَ في ذاتِهِ محتملاً، وتجعلُ من العزلةِ والسكينةِ مستحبَّيْنِ للكثيرينَ، أكثرَ من الاضطرابِ وباقي مشاغلِ البشرِ. ألا تُنْتِجُ منْ إيقافِ المرْءِ في ذاتِهِ آثارَها الأكْثَرَ إبهارًا؟ ولا تفعلُ ذلك إلاَّ بإيصالهِ بِالرَّبِ ودعمِهِ في شعورِه بالبُؤسِ، عبرَ تطَلُّعِهِ لحياةٍ ثانيَةِ ستُحرِّرهُ كُلِيًا.
ولكن لأولئِك الَّذين لا تُحرِّكُهم سوى طبيعتُهم، فمِنَ المُستَحيلِ أنْ يبقوا في هذهِ الرَّاحةِ الَّتي تتيحُ لهم أن يَتَفَرَّسُوا في ذواتِهم، دونَ أنْ يُهاجِمَهُم الحُزنُ والأسَى. ذاكَ الَّذي لا يُحبُّ إلا نفسَهُ، لا يكرهُ شيئًا قدرَ كرهِه البقاءَ وحيدًا مع نفسهِ. فهوَ لا يبحثُ عن شيءٍ إلاَّ لنفسِه، ولا يهرُبُ من شيءٍ قدرَ هروبِه من نفسِه. لأنَّه حينَ يرى نفسهُ، لا يرَاها كمَا كانً يرغبُ أن تكونَ، ويجدُ فيها كمًّا من الآلامِ لا مفرَّ منهُ. وفراغًا ماديًا وحقيقيًا يَصعُبُ عليهِ ملؤُه.

فَلنختَرْ أيَّ حالةٍ نشاءُ، ونجمعُ فيهَا كل ما نريدُ منَ الخيراتِ والمَلذَّاتِ الَّتي تظهرُ قادرةً على إرضَاءِ أيّ إنسانٍ. إذا كانَ هذَا الإنسانُ الَّذي سَنضعُه في هذهِ الحالةِ بلاَ مشَاغلَ ولا تَرْفيه، مُفكِّرًا في ماهيَّتِه، فإنَّ هذهِ الغِبطةَ -القَاهِرةَ- لنْ تَنْتشِلهُ ممَّا هو فيهِ. سيقعُ بالضَّرورةِ في تصوُرَاتٍ سوداويَّةٍ عن المُستَقْبلِ: وإذَا لمْ نشغَلْهُ خارجَ ذاتِه، فسيغدو بالضَّرورةِ تعيسًا.



...يُتبع


ترجمة: Achraf Nihilista & Yassine Hilly



الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

أوشو... عن كارل يونغ وعلم النّفس الغربيّ







أوشو... عن كارل يونغ وعلم النّفس الغربيّ






ثمة طريق وحيدة بلا استثناء، إنّها طريق التأمُّل— والّتي ظلَّ علم النّفس الغربيّ يتجنّبها. ظلَّ يتجنَّب ليحمي بنيته وأدبياته برمتهما. مؤسسوه ومحلّلوه النّفسيين الكبار، كلُّهم سيغرقون، سيُنسَون لو دخل التأمل المجال. لأنّ التأمُّل يستطيع مساعدتك لتكتشف شيئًا يتجاوز عقلك.
يوجد الإيجو بين العقل والجسد. إنّه كيان زائف. ليستِ الذّاتُ موجودةً بين العقل والجسد، إنّما وراء العقل. ولتبلغ الذَّاتَ عليك أن تتعلَّمَ طرائق إسكاتِ العقل، بحيث تختفي ثرثرته المستمرة. وذلك لأنَّ الذَّات الحقيقيّة صمتٌ مطلق.
ما لم يُدمِج علم النّفس الغربيّ التأمُّل، فسوف يظلُّ موثقًا إلى الأنا. لا يستطيع ترك الإيجو لأنّ دون إيجو لا يعود عندها ثمة مركز للإنسان. على الأقل ثمة شيء— قد يكون زائفًا— لكنّه شيءٌ نتمسَّك به... لكنّه يدمِّر حياة الإنسان كلِّها. يزيد من اندفاعه أكثر فأكثر، يجعله أسرع دون أن يعرف إلى أين هو ذاهب. ولماذا هو ذاهب، دون حتى أن يتقصى من يكون. 
لم يسأل علمُ النّفس الغربيّ سؤالًا أساسيًّا— مَنْ أنا؟— لأنّ هذا السؤال سيدمِّر الإيجو الزّائف. وأن تسأل ذلك السؤال يعني أن تدخل عالَمَ التأمُّل، والتأمُّل بإيجاز هو حالة من اللاعقل. ولقد خاض علم النّفس الغربيّ، وما يزال، آلامًا كبيرة لينكر أيّة حالةٍ كهذه من اللاعقل— إنّ العقل نهاية وجودك— موقف غير علميّ بالمرّة من دون استكشاف أو حتى الاطلاع على التّاريخ الطويل لمتصوِّفي الشّرق— ليس علم النّفس الغربيّ سوى علمٍ بعمر... قرن واحد. لقد وُلِدَ للتو.
يقارب عمر الصوفيّة الشرقيّة عشرة آلاف سنة. ليستْ قضيّة كلمة رجل واحد، أو بلد واحد؛ بل بلدان محتلفة وأعراق مختلفة وأزمنة مختلفة، ولم يكن بينها تبادل في الأفكار، وصلوا جميعًا إلى نفس الخلاصة. لا يمكنك أن تواصل تجاهل الأمر ببساطة. نصف البشريّة— وعلى الأرجح النّصف الأفضل؛ لأنّه تحضَّر قبل الغرب، تثقف قبل الغرب بزمن طويل، عاش كلَّ الأمجاد الّتي يعتقد الغرب أنّه يبلغها الآن... عند النظر إلى أدب تلك الشعوب ومخطوطاتها وموسيقاها وشعرها، سيكون عليك أن تفكِّر أنّ النّاس الّتي أبدعتْ مثل هذه المخطوطات، ومثل هذا الشعر العظيم، ومثل هذا الرسم العظيم، ومثل هذه الموسيقا العظيمة، لا يجب تجاهلها اعتباطًا. يجب الاستماع إليهم بحرص ويجب استكشاف كلِّ ما يقولونه دون أيِّ تحيُّز. إنّهم يقولون إنّ العقل ليس نهاية الإنسان؛ بل اللاعقل هو حقيقته الجوهريّة.
العقل ظاهرة متغيّرة، إنّه جريان متواصل— ونعلم ذلك! إنّه يتغيّر كلَّ لحظة. إن الأفكار في حالة ازدحام مستمرّة. لا تستطيع إبقاء فكرة واحدة في عقلك لأكثر من بضع لحظات. إنه جريان متواصل غير مستقر. ليس بوسعه تأسيس حقيقة الإنسان الجوهريّة. ثمة حاجة لشيء أكثر تماسكًا. وهو هناك، لقد تمّ اكتشافه. عاشه ناس. وبوسعك رؤية الفرق: ما يزال أعظم محلّل نفسيّ في الغرب عرضة لنفس ضروب الأمراض مثل أيِّ إنسان عادي، لنفس الجنون، لنفس الشيزوفرينيا. بخصوص خبرته، فهو متمرّسٌ جيّدًا بالفعل، لكن فيما يخص إنسانيته، هو عادي كأيِّ شحض آخر. ليس فيه تحوّل جذريّ.
اشتُهرَ الأطباء النفسيون بأنّهم يغتصبون مرضاهم— أنّى لهؤلاء النّاس إذن أن يقدموا المساعدة ؟ يصاب أطباء النّفس بالجنون ضعف ممارسي المهن الأخرى. وينتحرون بمقدار ضعفي من ينتحرون من ممارسي المهن الأخرى. ليسوا أناسًا مرحين، ليسوا هادئين وساكنين، لا تبدو عليهم سكينة الصوفيين، ولا سعادتهم ولا يقينهم ولا هيبتهم. كلُّ ما يحلُّ بهم من صنيع العقل.
يظْهر الصوفيّ أعلى مرتبةً من المحلّل النّفسي. في الواقع إنّ المحللين النّفسانيين يخافون مواجهة الصوفيين؛ لأنّ مَثَلَهم أمام الصوفيين كمثلِ الجمل قرب الجبل. لا تحبُّ الجمال الذهاب إلى الجبال؛ تحبُّ الصحراء. فهناك تكون هي الجبال.
كان كارل غوستاف يونغ في الهند. زار تاج محل، ذهب ليرى مجموعة معابد خاجوراهو، ذهب ليرى معابد كوناراك، لكنّه لم يذهب لرؤية رامانا مهارشي. وحيثما ذهب، قيل له مرارًا وتَكرارًا " أنت أحد أعظم المحلّلين النّفسييين في الغرب، عليك ألاّ تفوِّتَ فرصة لقاء صوفيّ مشرقيّ قد بلغ صفْوَه الكامل."
كان في الجنوب، على بعد ساعتين من بلوغ رامانا مهارشي لو أراد ذلك. لثلاثة أشهر كان في الهند، لكنّه تجنَّب الأمر. لا يمكن لهذا أن يكون محض صدفة. ولقد شعر هو نفسُه أنّه مدين بتفسير ما، وإلاّ سيبدو الأمر على أنّه تجنَّب. وبطبيعة الحال، لمّا كان مفكرًا عظيمًا ومحلِّلًا نفسيًّا كبيرًا- كان بوسعه إيجاد أيِّ عذرٍ وأيِّ تفسير، وقد وقع على تفسيرٍ يمكن اعتباره خطيرًا.
صدر تفسيره عندما عاد لزيورخ، صرّح بأنّه لم يذهب لرؤية رامانا مهارشي" لأنّ ثمة اختلاف بين طرائق الشّرق وطرائق الغرب، وأنّ الطريقة الشرقيّة خطيرة على الإنسان الغربيّ؛ إذ إنّه نشأ بطريقة مختلفة، تقاليده مختلفة وثقافته مختلفة ودينه مختلف وتطوره النّفسيّ كلّه مختلف. إن من الخطير أن نجلب لهذه النّفسيّة المختلفة أيّة طريقة من الشّرق؛ لأنّ تلك الطرائق طوَّرتْ لإنسان مختلف، لنفسيّة مختلفة- ولهذا لم أزره." لكن هذا كلّه هراء، فمن قال إنّ عليك اتباع رامانا مهارشي، من قال إنّه عليك استعمال تقنياته وطرائقه؟
كلُّ ما كان يصرُّ النّاس عليه هو أنّ عليك أن تراه على الأقل. مجرّد لقائه لم يكن ليدمِّرَ علم نفسِك الغربيّ. لو كان هذا العلم ضعيفًا وهشًا لدرجة أنّ لقاء رامانا مهارشي سيدمره، فهو لا يستحق عناء الإبقاء عليه — يجب أن يدمَّر، وكلّما كان ذلك أقرب كان أفضل. لم هدر الوقت على شيء بهذا الضّعف؟ رامانا مهارشي ليس خائفًا منك.
حين قيلَ لرامانا مهارشي إنّ كارل جوستاف يونغ هنا وإنّه قيل له باستمرار من قبل كلِّ عالِم نفسٍ يلتقيه في الهند" إنّ لقاء أيِّ بروفيسور تحليل نفسيّ في الهند عديم الجدوى؛ لأنّهم ببساطة يكررون ما تنتجه أنت في الغرب كالببغاوات. من الأحسن أن تذهب لترى شخصًا فريدًا ومختلفًا لتكون لديك نظرة مقارنة." حين سمع رامانا بهذا وأنّه قد يأتي إليه شعر بالغبطة. وقال: "مرحبًا به في أيِّ وقتٍ شاء القدوم، أنا متوفر"
وهذا الرجل أميّ. ترك منزله في عمر السّابعة عشر. ليس خبيرًا بأيِّ شيء. ليس عالِم منطق، ليس فيلسوفًا وليس خائفًا من أيٍّ من مؤسسي علم التحليل النّفسيّ. كان ليسعد برؤيته. لكنّ محلّل النّفس جبان.
بالنّسبة لي، ليستْ هذه مجرّد حادثة بين يونغ ورامانا؛ إنّها رمزيّة للغاية، وذاتُ مغزى. علم التحليل النّفسيّ الغربيّ خائفٌ لأنّه قائمٌ على رمال متحركة، لا أساسَ له. إذن لو سألتني، لا يمكن لي أن أقترح عليك تغييراتٍ صغيرةٍ هنا وهناك. ليس بوسعي أن أخبرك كيف تقدر على ترميمه تاركًا البنیان القديم سليمًا— مجرّد أن تطليه بلون جديد، وأن تعيد ترتيب الأثاث وما إلى ذلك. لا. أساساتُ البناء كلّه قائمةٌ على نحو خاطئ.
على علم النفس الغربيّ أن يترك الإيجو وأن يجد الذّاتَ الحقيقيّة وذلك غير ممكن من دون التأمُّل. لقد فعلها الشّرق لآلاف السنين. لذا ليس الأمر جديدًا، ليس شيئًا غير مُستكشَف، ليس أمرًا دونكيخيوتيًا. إنّه أمرٌ تقف القرون له دعامة. ولم يُجَنَّ أيِّ متأمُّل يومًا، لم ينتحر أيِّ متأمُّل يومًا، لم يغتَصِبْ أيِّ متأمِّلٍ يومًا. ليس الأمر مجرّد تجربة عمليّة، أو فهمًا فكريًا؛ إنّه تحوَّل جذريِّ للإنسان نفسِه.
يجب تذكير المحلل النفسي بإحدى مقولاتِ سقراط؛ على الطبيب أن يشفي نفسّه أولًا. المحلّل النّفسيّ مريض بدوره، مريضٌ تمامًا. لا يختلف عن الزّبون. جميعهم في قارب واحد. إنّه يرى نفس الكوابيس ويعاني من نفس التوتراتِ النّفسيّة و يشعر بنفس اللامعنى ويحاول مساعدة النّاس الّذين يحملون نفس الأمراض. أنّى له أن يكون مرجعًا. بأيِّ وجهٍ سيؤكد للمريض أنّ الأشياء قابلة للتغيير. ليستْ شخصيته مندمجة بكليتها في عمله. إنّها دراسته فحسب.
يشبه الموضوع رجلًا يدرس تاريخ الفنّ، فيصبح مؤرخًا عظيمًا لكلِّ الفنِّ الّذي أنتج في العالَم كلّه، لكنّه لا يستطيع رسم خط مستقيم بنفسِه. لأنّ لا ذلك ليس تاريخًا. لا مغزى من ذلك، فتخصّصه التّاريخ. هذه حال المحلّل النّفسيّ: يعرف كلَّ شيءٍ عن العقل، لكنّه لا يعرف كيف يغيّره، لا يستطيع تغيير عقله حتى؛ لأنّ في كلِّ تغيير عليك أن تكون منفصلًا عن الشيء الّذي ستغيره. وهو يعرِّف نفسَه بالعقل - فمَنْ سيغيّر مَنْ؟
يخلق التأمُّل الفجوة. يأخدك ما بعد وما وراء العقل، عندها يمكنك أن تتغيّر؛ لأنّ العقل يصبح موضوعًا لك. عندها لا تعود تعرِّف نفسَك بالعقل. عندها تستطيع إعادة ترتيبه أو تغييره بشكل كامل ولا يقدر العقل أن يؤثر عليك إطلاقًا. أنت قصي للغاية، متعالٍ للغاية بحيث لا يستطيع العقل الوصول إليك.
يمنحك تعذر وصول العقل إليك قوّة هائلة. تستطيع الوصول إلى العقل وتغيير أيَّ شيءٍ تريده ويصبح العقل عاجزًا لأول مرّة. تستطيع مساعدة مرضاك على أن يتأمَّلوا.
الآن يخبرون مرضاهم أن يمارسوا تمارين تحليل أحلامٍ عديمة الجدوى. يأتي المريض مرّتين أو ثلاثًا في الأسبوع لمدّة ساعة، متحدثًا عن جميع أحلامه. وبينما يتحدث عن أحلامه، جالسًا خلف الأريكة، أتعتقد أنّ المحلّل النّفسيّ يستمع إليه؟ هل هو قادر على الاستماع؟ يحتاج لذلك إلى عقل صامت، وهذا ما لا يملكه. لربما يحلم بدوره، جالسًا في الخلف.


المصدرأوشو-تسجيلات- العهد الأخير، المجلّد الخامس.


ترجمة: Abderezak Belhachemi