الأربعاء، 30 أغسطس 2017

بليز باسكال: حول بؤس الإنسان. -الجزء الثاني-




بليز باسكال






أَلَيْسَت الكرامةُ الملكيَّةُ عظيمةً في ذاتِها، بِحيثُ تَجعلُ الَّذي يَمتلِكها سعيدًا بمجرَّدِ النَّظرِ لما هوَ عليهِ؟ أيجبُ إلهاؤُه عنْ هذهِ الفِكرةِ مثلَما هوَ الحالُ بالنِّسبةِ للعوامّ؟ أنَا أرى جيِّدًا أنَّ جعلَ الإنسانِ سعيدًا، يكونُ في صرْفِ نظرِه عنْ بُؤسهِ اليوميّ، حتَّى يشغلَ فِكرَهُ كاملاً بالانشغالِ بالرَّقصِ الجيِّد. ولكنْ هلْ سَيبلغُ دَرجةَ الملوكِ؟ وهلْ سيكونُ أكثرَ سعادةً في علاقتِه بتسليتِه التَّافهةِ أكثرَ منْ التَّفرسِ في مشهدِ عَظَمتِه؟ ما هوَ أكثَرُ شيءٍ مقبولٍ يمكنُ أن تنالَ روحهُ، ألنْ يكونَ في هذَا كبحًا لسعادتِهِ وانشغالاً لرُوحهِ عن التفكيرِ في ضبطِ خطواتِهِ على إيقَاع حالةٍ أو وضعٍ ما بشكلٍ مُتقنٍ، بدلَ تركهِ مستَمتِعًا في سكينةٍ تأملّ العظمةِ المُستفيضةِ المحيطةِ بهِ؟ عندمَا نخوضُ التَّجربة، ونتركُ ملكًا لوحدِهِ، بدونِ إرضاءٍ لحواسِّه، بدونِ حرصٍ على روحِه، وبدونِ رفقةٍ، مفكرًا في ذاتهِ فقطْ، سَنرى أنَّ ملكًا تأملَّ في نفسِهِ هوَ رجلٌ بئيسٌ أيضًا، تَمامًا كغيرِهِ منَ الرِّجالِ. وحتَّى بتفادِي هذَا بعنايةٍ، سَيَتواجدُ دائمًا بجانبِ الملوكِ عددٌ كبيرٌ من المرافقينَ، هَمُّهم تسليةُ الملوكِ بعدَ مشاغلِهم، مهمَّتُهُم ملاحظةُ أوقاتِ الفراغِ وملؤُها بما لذَّ من المُتعِ والألعابِ، حتَّى لا يبقَى ثمَّةَ منْ فراغٍ. أيْ أنَّهم محاطون بأشخاصٍ مهتمُّون للغايةِ ألاَّ يبقَى الملكُ وحيدًا، في حالةِ تأمُّلٍ ذاتيّ، علمًا منهم أنَّه عرضةٌ للبؤْسِ، فكلُّ ملكٍ تعيسٍ هوَ ملكٌ فَكَّرَ في ذاتِهِ.
إنَّ الشَّيءَ الجَوْهريَّ الَّذي يدعمُ الإنسانَ أمامَ أهوالِه الكُبرى والمُعَذِّبة، هوَ أنَّه يُصْرَف عنِ التفكيرِ في ذاتِهِ دائمًا. احذروا من هذَا!
ماذَا يعني أنْ يكونَ المرءُ رئيسًا، وزيرًا أو حتّى وزيرًا أوّل، غيرَ أنْ يمتلِك عددًا من النَّاسِ المحيطينَ بهِ من كلِّ جانبٍ، مُهِمَّتُهم ألاَّ يترُكوا لهُ ولَوْ ساعةً واحدةً في اليَومِ حيثُ يمكنُ أنْ يفكِّر في ذاتِه؟ وعندمَا يَفقِد الملوكُ عزيمتَهُم، ويُبعَث بهم إلى منازلِهم في الأريافِ، حيثُ لا ينقُصُهُم لا الخيراتُ ولا الخدمُ ليُوفرُوا حاجياتهِم، وحتى لا يتركوا لهُم الفُرصةَ ليُصبحوا تُعسَاءَ، لغيابِ المانعِ من التَّفكيرِ في الذَّات.
مِنْ هُنا جاءَ انشغالُ عدَدٍ منَ الأشخاصِ بالألعابِ والقَنْصِ ووَسائِلِ التَّرفيهِ الأُخرى الَّتي تشغلُ حيِّزًا كبيرًا في روحِهِم. ليسَ لأنَّ هنالكَ سعادةً فيمَا يمكنُ الحصولُ عليهِ في هذهِ الألعابِ، ولا في تصوُّرِ الغِبطةِ الحقيقيَّةِ في المالِ الَّذي يُمكنُ جَنْيُهُ منَ المُراهناتِ، أوْ في الأرنَبِ البريّ الَّذي يَقتنِصونَهُ. لنْ نرغبَ بهذَا الأرنبِ أو هذَا المَالِ لَوْ كانَ مَمْنوحًا دونَ جُهدٍ، ليسَ هذا الاستعمالُ الرَّخوُ والسَّلبيّ، الذي يجعلُنا نُفكِّر في وَضْعيَّتنا التَّعيسةُ، هو ما نبحثُ عَنْه في التسلية. ولكنّ الهمّ هو الَّذي يَصرِفُنا عنِ التفكيرِ في ذَواتِنا.
مِنْ هنا جاءَ حبُّ الإنسانِ للصَّخبِ والضَّوضاءِ في العالمِ. فالسِّجنُ بالنِّسبةِ لهُ عقوبةٌ مريعةٌ، وثمَّة القليلُ من النَّاسِ فقطْ مَن يقدرونَ على معاناةِ العُزلةِ.
هذا كلُّ ما تمكَّن الإنسانُ مِن خلقِه ليُسعدَ نفسهُ. والَّذينَ يَتسلَّوْن بإظهارِ تفاهةِ وانحطاطِ تسليةِ الإنسانِ، يعرفونَ جيِّدًا حقيقةَ جزءٍ منْ بُؤسهم؛ لأنَّه بؤسٌ أكبرُ منَ القدرةِ على التَّسليةِ بأشياءَ خسِّيسةٍ وكريهةٍ: لكنَّهم لا يُدركونَ الجَوْهرَ الَّذي يجعلُ بؤسهم ضروريًّا، ما لم يَسْلَموا منَ البُؤْسِ الدَّاخليّ والطبيعيّ الَّذي يَشْترطُ عدمَ القُدرةِ على معاناةِ النَّظرِ إلى الذَّاتِ. لَو أنَّ شخصًا اشترى هذَا الأرنبَ البريّ، ما كانَ ليمنعَ عنْهُ الرُّؤيةَ؛ ولكنَّ القَنصَ يمنعُها. وحينَ نلومهُ على ذلك، أيْ على بحثِهِ المُستميثِ الَّذي لنْ يُرضيه، وأنَّه ليسَ ثمَّةَ ما هوَ أتفهُ وأدنى ممَّا يبحثُ عنهُ، لوْ أنَّ استجابتهُ كانتْ سليمةً ومُفَكَّرًا فيها، لَوافقَ: ولكنَّهُ يَعْترِضَ قائلاً أنَّه لا يبحثُ سوى عنْ ملهاةٍ عنيفةٍ وشديدةٍ ليصرفَ نَظره عن ذاتهِ، ولهذا يَقترِحُ على نفسِه شيئًا جذُّابا يُغريهِ ويَشْغلُ وَقتَهُ. ولَكنَّهُ لا يُجيبُ حتَّى بذلكَ، لأنَّه لا يَعرِفُ نفسهُ. إنّ رجلًا نبيلًا يعتقِدُ صراحةً بوجودِ شيءٍ عظيمٍ ونبيلٍ في القَنصِ: سيقولُ أنَّها مُتعةٌ ملكيَّة. تمامًا مِثلَ باقي الأمورِ الَّتي تشغلُ النَّاسَ. نحنُ نَتخيَّلُ بلوغَ شيءٍ صلبٍ وحقيقيٍّ فيما نبحثُ عنْه، نُقنعُ أنفسنا أنَّنا إذا ما بلغناهُ، سَنرتاحُ مُستَمْتِعينَ: ولا نُدرِكُ طبيعتَنا الجَشِعةَ وصَعبةَ الإرضاءِ. نَعتقِدُ أنَّنَا نَبحَثُ بحقٍّ عن السَّكينةِ، ولكنَّنَا لا نَبْحثُ في الحقيقةِ إلاَّ عن الاضطِرابِ.
يَمتلِكُ الإنسانُ غريزةً سِرّيةً تجعلهُ يَبحثُ عنْ التَّرفيهِ والانشغالِ في الخَارِجِ، والَّتي تنبعُ من الإحساسِ الدَّائمِ بِبُؤسهِ الأبديّ. ويملِكُ غريزةً أُخرى، سِرّيةٌ بِدَورِهَا، استمرَّت مَعهُ مُنذُ حالَتِهِ الطَّبيعيَةِ الأولى، تَجْعلُهُ هذهِ الغَريزةُ يعلمُ أنّ السَّعادةَ لا توجدُ خارِجَ حالةَ السَّكينةِ. وَمِنْ هاتَيْنِ الغريزتَيْنِ المُتَضادَّتَين، يَتشكَّلُ مَشروعٌ ضبابيٌّ يَتوارى عنْ نَظرهِ في جوهرِ روحهِ، والَّذي يَجعلهُ يَرْنو للسَّكينةِ عبرَ الاضْطرابِ، ولِيُدركَ دائمًا أنَّ الرِّضى الَّذي فَقَدَهُ سَيَستَرجِعهُ إذَا تَجاوزَ بعضَ المصاعِبِ الَّتي تقفُ في الطَّريقِ، عِندَها يُمكنُ أنْ يَقْتحمُ أبوابَ السَّكينةِ.

وهَكذا تُهدَرُ الحَياةُ كُلّها. نَبْحثُ عنِ السَّكينةِ عبرَ تَجاوزِ بَعضِ العَقباتِ، وما إنْ نَتجاوُزهَا، حتَّى تغدو السَّكينة ذاتها غيْرَ محتملةٍ. إمَّا أنْ نُفكِر بالمآسي الَّتي أصابتْنا، أو تِلك المُحدِقَةُ بنا. وحتَّى حينَ نَعْتقدُ أنَّنَا مُحصَّنونَ مِنْ ذلكَ كلِّه، لَنْ يَتركَ الضَّجرُ فُرصَتَهُ ليَسْتعرِضَ نُفوذَهُ وتَجَبُّرَهُ، ويَخرُجَ مِنْ أعماقِ القَلْبِ حَيْثُ تَمْتدُ جُذورُه، ليَدُسَّ بالعَقْلِ سُمُومَه.



... يُتبَع



ترجمة: Achraf Nihilista & ياسين الحيلي




هناك تعليق واحد:

  1. "كلُّ ملكٍ تعيسٍ هوَ ملكٌ فَكَّرَ في ذاتِهِ". باسكال عظيم ودقيق في وصف بؤس الإنسان.

    ردحذف