مختارات من وديع سعادة
غُبار:
إننا ذاهبون إلى إلهنا، إلى العدم.
نحن الغباريّون، و هذا ما رأيناه في هبوبنا، هذا ما كان شيئًا قبل أن يصير غبارًا، ما كان شيئًا قبل أن نصير نحن الغبار.
العابرون سريعًا جميلون. لا يقيمون في مكان كي يتركوا فيه بشاعة. لا يبقون وقتًا يكفي لترك بقعة في ذاكرة المقيمين.
العابرون لا ضحايا لهم. هل لذلك بات علينا، كي نمجّد الحياة، أن نمجّد عبورها بسرعة، أن نمجّد الانتحار؟
أجملنا الراحلون. أجملنا المنتحرون. الذين لم يريدوا شيئًا ولم يستأثر بهم شيء. الذين خطوا خطوةً واحدة في النهر كانت كافية لاكتشاف المياه.
أجملنا الذين ليسوا بيننا. الذين غادرونا خفيفين، تاركين، بتواضع، مقاعدهم لناس قد يأتون الآن، إلى هذه الحفلة.
الخطوة المغادِرة، هي الأجمل دائمًا.
اللغة هي أصوات موتى. وهكذا نرصف جثثًا.
الكلام الحي كان كلام الإنسان الأول. الأول، قبل أن يتكلم.
أن تتجاوز الرغبة، أليس هذا هو العبور العظيم؟
ألا تكون وصلت إذ تلغي الأهداف؟
إن بلغتَ رغبةً تلد لك رغبات. فالرغبة إن بُلغت تكاثرت. ولدتْ أطفالاً مشاكسين. وتركض أنت، تركض ولا تبلغهم، إلى أن تلفظ الأنفاس.
اقعدْ. لا تلهثْ على الدروب.
إلغِ الدرب، تصلْ.
كل معرفة جديدة شك جديد ويأس جديد. حتى لكأنّ التفاؤل ليس سوى الجهل. حتى لكأنّ الجهل هو الخلاص!
الآخرون ليسوا جحيمنا فحسب. الآخرون هم عَدَمنا.
المنحرفون أبدعوا قِيَمنا، أودعونا حضارةً سريّة جميلة، في مقابل حضارة يُستحال إحصاء جثثها.
المنحرفون، الذين ماتوا في المصحات أو في السجون، هم آباؤنا الحقيقيون.
ها هو العالم يختنق. إذ كيف يتنفّس العالم بلا هامشه؟
المنبوذون هم رئة الحياة.
قلب الحياة، هو الهامش.
سلامٌ للمناطق النائمة في الدماغ، الوادعة كالفراغ، المسحورة كالعدم.
سلامٌ للخلايا التي لم تستيقظ بعد. إنها خلايا السلام.
هذا العقل يكاد يفني الأرض.
سلامٌ لخلاياه المنحرفة، سلام للجنون.
الإنسان كائنٌ عاقل؟ صفة ناقصة. ما عادت دقيقة. الإنسان كائن منفيّ.
ليس ممكنًا، بعد، أن تكون حاضرًا مع آخرين، لا بينهم ولا فيهم. لم يعد لديك كلام لهم ولم يعد لديهم كلام لك. إذا تكلّمتَ لا تتكلم إلا مع ذاتك ولو ظننتهم يصغون. وإن تكلّموا لا تسمع إلا صوتك ولو اعتقدوا أنك تصغي. لا تكون إلا فيك ولو كنت في جمهرة. ولا يكونون معك ولو كنت بينهم... لستَ إلا منفيًا وليسوا إلا منفيين.
منفيٌّ في المكان ومنفيٌّ في الناس. منفيٌّ في الخارج ومنفيّ في الداخل.
مثلّث المنفى: منفى المكان ومنفى الآخر ومنفى الذات.
منذ الفجر الأول كان الألم. قامت الأرض على صرخته. تكوّنتْ ونمتْ على هذا الصوت. كأنها من دونه لم تكن. كأن الأرض تكونت من فاجعة، من خطأ. كأن ما يلد، وما ينمي، وما يفرض الاستمرار، هو الخطأ.
الطموح صفة الناقص. أما الممتلئ فيهدأ ويجلس.
أنا أنسى، إذن أنا موجود!
حين نتذكر نصير الموتى.
المتذكرون هم موتى موتاهم.
الذين بلا رغبات هم الأحياء حقًا.
لا شيء يقتلهم ولا يتركون ضحايا.
العالم سصير لهم إذ يأنفونه. فالعالم، الذي لا يُملك، له سرٌّ لامتلاكه، هو: رفضه.
أمُّ الشقاءات، فكرة الوصول. إذ لا وصول، لا نقطة، لا مقعد، على الطريق.
ليس المشي ما يُتعب، بل فكرة الهدف.
آن تؤخذ بها، يفوتك الزهر على الدرب وشدو الطير وجمال رنّات خطواتك.
الهدف يسرق منك النزهة ولا يمنحك ذاته. كلما اقتربت منه ابتعد، كلما أطللت عليه غاب.
امحُ ذاكرة الوصول وتمتَّعْ بالمشي.
بل انسَ. انسَ الهدف وانسَ الدرب.
للنسيان خفة محو الطريق، وتأبيد لحظة عدم السير.
أنا أفكّر إذن أنا موجود؟
لا. أنا أنسى إذن أنا موجود.
النسيان، هذا هو الوجود.
كلَّما نقص صوت، أعتقد أن الأرض تشعر براحة.
الذين يصمتون يرتفعون عن الأرض قليلاً، لا تعود أقدامهم وأجسادهم ملتصقة بها. الذين يصمتون ينسحبون من جمهرة الأرض كي يحتفوا بذاتهم. كأنَّ الاحتفاء بالذات لا يتمُّ إلا بالعزلة. كأنَّ الاحتفاء بالحياة لا يكون إلا بالصمت.
الذات تحتفي بغيابها عن الآخر. الذات تحتفي بالغياب.
الصامتون منتحرون أيضًا. صحيح. لكنهم يتوحدون مع ذواتهم على خشبة الانتحار.
لو يصمت العالم الضاجُّ، قليلاً. ماذا يحدث لو صمت العالم؟ لو اختفى ضجيج البشر لحظة؟ أما كانت الأرض تستعيد بعض فتوَّتها، بعض صحتها؟
هذه الأصوات تنشر الأمراض.
إذا كان هناك من يريد فعلاً أن ينقذ البشرية فليأمرها بالصمت.
الأرض لا تفتقد غيرَ مخلِّصٍ واحد، يخلّصها من الضجيج.
المنتحرون، قديسونا. الذين لم تسعهم الحياة، ففتحوا فسحة في الموت.
تعالَوا عن هبة، عن ضيافة حدثت بالصدفة، عن مائدة كانوا هم طبقها، وصفقوا الباب وراءهم و غادروا.
لا ينتحر غير من طفح بالحياة. من طفحت فيه الحياة فاندلقت.
ولا ينتحر غير من يعلو على الموت. من يسوده.
المنتحر يهب الموت معنى. ويدحره.
من ينتحر يترك لطختين، واحدة على وجه الحياة وأخرى على وجه الموت. يترك آثار سيادة.
لكن السيادة ليست مطلب المنتحرين. المحو مطلبهم. محو سيادة الحياة وسيادة الموت. سيادة من جاء بهم وسيادة من يذهب بهم. سيادة الآخر وسيادة الذات. المحو الذي هو سيادة وجود، فعل حريّة.
المنتحرون قدّيسونا، سادة المحو، سادة الخواء.
إذ يسلّمون روحهم للخواء لا يكونون يسلّمون حياة بل إدانة. ولا جثة بل اسم قاتل. ولا خلاصًا بل هباء.
إذ يسلّمون أنفاسهم يسلمون الفراغ.
نصُ الغياب :
مشيتُ طويلاً في خيال اللغة، حتى انكسرتُ في وهمها. مشيتُ في اللغة بحثًا عن موطني، حتى اكتشفتُ أني أبحث عن وهم. ولأنّ اللغة كانت هي موطني، فإني ما سكنتُ إلا في الغياب.
كلماتٌ كثيرة، ولكن يُستحالُ قولُ أيّ شيء.
كنتُ تقريبًا ميّتًا دائمًا. كنت مجموعة موتى: ضحيةَ كل صوت وكل صدى. ميّتٌ حين أُرسل الكلام وميّت حين أتلقّى صداه. ولأني تكلمت كثيرًا، متُّ كثيرًا... والآن أريد الصمت، أريد أن أحيا.
لم يكن للكلمات مكان.. في البدء لم يكن كلام، كان الصمت. وحين انبثقت الكلمات بدأ طريقُ الموت.
بحثٌ متوهَّم عن المكان، الكتابة. بحثٌ متوهَّم عن الزمن، عن الحياة، عن الحريَّة... بحثٌ متوهَّم.
الأوهام حياتُنا. فلنحتفظْ بها لكي تكون لنا حياة.
الوهمُ إذًا هو السعادة. والحقيقة هي اليأس.
ليست لدينا لغة. ولذلك لا اتصال مع الآخرين. لا اتصال مع ذواتنا.
في البدء لم تكن الكلمة إذن، ولا الله، بل كان الخطأ. والخطأ ولَّد أخطاء، كان منها الكون.
كيف يمكن أحدٌ كلّيُّ الكمال أن يخلق كونًا بهذا النقص الرهيب؟ قيل الكونُ صورتُه. أين هو أريد أن اراه، أريد أن أعرف إنْ كان فعلاً بكل هذه البشاعة!.
لتكن لنا نعمة اليأس، نعمة رضى الطيور المخذولة، العالية والبعيدة، النائية عن التطلّع إلى الوليمة. ليكن لنا جمال الفريسة، رضى العجز عن الإفتراس، مسحة الجمال الأخيرة للضحية، بسمةُ قبول الدم.
لنقلِب المقاييس، فَنُقِمْ للنصر نَدْبًا وللهزيمة زغاريد. لنستهجنِ العادةَ التاريخية السمجة، افترارَ الثغر عن بسمةٍ وقتَ الفرح، جاعلين النقاطَ الساقطة من العيون علامةً للغبطة، شعارًا لمهرجان الانقلاب العظيم على التكوين.
نغيّر كيمياءَ الروح، هذه التركيبة السيّئة التي أثبتت، على مدى التاريخ، أخطاءَ تكوينها.
نجعل الفشل هدفًا، الكسلَ إنجازًا، العملَ مضيعةً للوقت، العذاباتِ صديقات، ورفضَ الحياة قمةَ عيش الحياة.
نقلب كيمياء الروح، فيتقلَّص عددُ الأعداء.
نحفر المقبرة العظمى، ونحتفل بمهرجان الإنقلاب العظيم على التكوين.
امنحوني عدمًا. أريد الجمال.
هناك موتٌ أكيد في الكلام. دمٌ واضح.
هناك وادٍ وأحجار، وأجسادٌ مستلقية عليها.
هناك قتلٌ، قتلٌ فظيعٌ، في اللغة.
إننا نُقيم في مجزرة!
وكلّما تكلمنا ازداد عدد الجزّارين.
حين لا نرى الآخرين يكونون جميلين حقًا. حين لا يتكلمون، نفهمهم.
في غياب الرؤية و الكلام، وجودٌ موحَّد ولغةٌ موحَّدة.
كيف يصف العاجزُ عن الحضور غيابَه؟ كيف يعجز حتى عن أن يكون غائبًا؟ والقابعون في الزوايا هل عليهم، كما الظانون أنهم في الساحات، أن يشهدوا فقط للعدم بالصمت؟
إننا نُقيم مأدبة عامرة للعدم، لا يأكل هو منها، ولا نحن نأكل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق