الاثنين، 13 يوليو 2015

الجزء الثاني: موت أوليفييه بيكاي - إميل زولا



للوصول للجزء الأول، يرجى الضغط هنا.


الفصل الثاني:


في أثناءِ بُكاءِ مارغريت، دُفِعَ البابُ بقوَّةٍ منَ الخارج، ثمَّ سمعتُ صوتًا يصرخ:
-ماذا حدث؟ مجردُ وعكةٍ صحيّةٍ أخرى، أليس كذلك؟
تعرَّفتُ على الصوت، إنّه لسيدةٍ متقدمةٍ في السّن، السّيدة غابين، التي تقيمُ في نفسِ الطابقِ الذي نقيمُ به.
بَدَتْ لطيفةً معنا منذُ أنْ وصلنا هنا، وتعاطفَتْ مع حالتنا. وفورَ وصولنا حكتْ لنا سيرةَ حياتها. أقدَمَ مالكُ المنزلِ حيثُ كانتْ تقيمُ على ببيعِ جميعِ أثاثها واضطرَّتْ للنزولِ في الفندقِ الذي نقيمُ بهِ منذُ الشِتاءِ الأخير، مصحوبَةً بابنتها آديلْ التي تبلغُ منَ العُمرِ عشرَ سنوات. كانتا ترتزقانِ منْ تقطيعِ الآباجورات، ولمْ يتجاوزْ مكسبهما الأربعين سنتا منْ هذا العمل الشاقّ في أحسنِ الأحوال.
-يا إلهي! هل انتهى الأمر؟ تساءلتْ خافضةً صوتها.
فهمتُ أنّها اقتربتْ مني ولمستني، ثمَّ باشرتْ حديثها في شَفَقة:
-يا صغيرتي المسكينة!
كانتْ مارغريت متعبةً تواصلُ بكاءها كالأطفال.
قامتِ السَّيدةُ غابين بعدها بمساعدتها على الوقوف، وأجلستها على الكُرْسِيّ الخشبيّ قربَ المِدْفَأة، وهناك شَرَعَتْ بمواساتِها.
- أفهمُ أنّكِ ستشعرينَ بالألم. لكنْ لا يجدرً بكِ الغَرَقُ في اليأسِ لمجردِ أنَّ زوجكِ قدْ رحل.  شعرتُ مثلكِ طبعًا حينَ فقدتُ زوجيّ غابين، أذكرُ أنّني لمْ أتناولِ الطعامَ لمدَّةِ ثلاثةِ أيّام. لكنَّ ذلك الحزنَ لمْ يقدني لأيِّ شيء؛ على العكس، تضاعفَ ألمي مراتٍ ومرات... كوني عاقلةً يا صغيرتي، حبَّاً بالله.
هدأتْ مارغريت قليلاً بعدَ أنْ خارَتْ قواها؛ ومنْ حينٍ لآخر كانتْ تتمَكنُ منها نوبةُ بكاء.
وفي هذه الأثناءِ شرعَتِ العجوزُ في ترتيبِ الغُرفةِ باهتمامٍ واضح.
-لا تهتمي لأيَّ شيء، لقدْ أرسلتُ ديدي لتبيع الآباجورات؛ ثمَّ في نهايةِ المطافِ نحنُ جيران، وعلى الجيرانِ أنْ يساعِدَ بعضهم بعضًا... أخبريني، لم تفرغوا حقائبكم كليًّا، وضعتم بعض الملابس في الدُرج، أليس كذلك؟
سَمعتُها تفتحُ الدُرج، لا بُدَّ أنّها أخَذَتْ منه مِنْشَفَة وَضَعَتْها على المنضدةِ قربَ السَّرير. بعدَ ذلك، سمعتُ صوتَ عودِ كِبريت، ما جعلني أعتقدُ أولَ الأمرِ أنّها تشعلُ شمعةً بالقربِ مني دلالةً على الحزن. تابعتُ كلَّ تحركاتها في الغرفةِ بانتباهٍ شديد.
-هذا المسكين! قالتْ بصوتٍ منخفض، لحسنِ الحظِّ أنّني سمعتُ صوتَ بكائك.
ثمَّ فجأة، اختفى ذلك الشعاعُ الذي التقطه عيني حتى الآن. لقد أغلقتْ السَّيدةُ غابين عينيّ. لمْ أشعرْ بحركةِ إصبعها على خدي. ولما بدأتُ أفهم، انتشرَ بردٌ خفيفٌ في جميعِ أنحاءِ جسديّ.
سمعتُ صوتَ البابِ منْ جديد، إنّها ديدي، الصبيةُ ذاتُ السَّنواتِ العشرِ التي دخلتْ هذه المرَّةُ غارقةً  بدموعها تصرخُ بصوتها الذي يشبهُ صوتَ المِزْمَار:
-أمي! أمي! كنتُ أعلمُ أنّكِ هنا. تفضلي هذا حسابك، ثلاثةُ فرانكات وأربعُ سنتات... جلبتُ معي عشرين دزينةً منَ الآباجورات.
-صهٍ! صهٍ! أصمتي! ردَّدَتِ الأم عبثًا.
وبما أنَّ الصغيرة لم تتوقف، رفعتها أمها على السرير. توقفتْ ديدي فجأة، وشعرتُ أنّها خائفة.
-هل هذا السَّيدُ نائم؟ تساءلتْ بهدوء هذه المرَّة.
-نعم، فلتذهبي للعبِ إذن. أجابتها السَّيدةُ غابين.
لكنَّ الطفلةَ لم تتحرك. أعتقدُ أنّها تحملقُ في جثتيّ بعينينِ مندهشتين، لا بُدَّ أنَّ الخوفَ قدْ تملكها حينَ بدأت الصورةُ تتضِحُ في ذهنها.
وفجأة، انتابتها نوبةٌ هلعٍ شديدة، هربَتْ وكادَتْ تتعثرُ بكُرْسِيٍّ في طريقها.
-إنّه ميّت! أمي! إنّه ميّت.
ثمَّ سادَ صمتٌ رهيب. واصلتِ الأمُ تذرعُ الغرفة، بينما ظلّتْ مارغريت متوقفةً عنِ البُكاءِ وملتصقةً بالكُرسيّ.
-الأطفالُ يعرفونَ كلَّ شيءٍ هذه الأيام. انظري إلى هذه، اللهُ وحدهُ يعلمُ هل أحْسِنُ تربيتها. حينَ تذهبُ لشراءِ الآباجوراتِ أو أرسلها لتبيعها مقطعة، أعُدُ اللّحظاتِ لأتأكدَ أنّها لا تتصرفُ كالأطفال... ليس الأمرُ بالمهم، إنّها تعرفُ كلَّ شيء، لقدْ عَرَفَتْ منْ نظرةٍ واحدة ٍكلَّ شيء. لمْ ترَ في حياتها سوى جثةٍ واحدة، جثةَ عمها فرانسوا، ولمْ تكنْ قدْ تجاوزتِ الرابعةَ بعدُ حينها... لمْ يعدْ هناك أطفال...
توقفتْ وانتقلتْ لموضوعٍ آخر بلا أيّةِ مقدمات:
-قولي إذن يا صغيرتي، يجبُ التفكيرُ في الإجراءات، في إعلانِ الوفاةِ للبلدية، وبعدها في كلِّ تفاصيلِ الدَّفن.
لستِ في حالةٍ تؤهلكِ القيامَ بهذه الأمور، لا أريدُ ترككِ وحدك... إذا سمحتِ لي فسأتحققُ منْ وجودِ السَّيدِ سيمونو في منزله.
لمْ تجبْ مارغريت بشيء، مرَّتْ هذه المشاهدُ أماميَّ كما لو كنتُ بعيدًا جدًا، و خُيِّلَ لي في لحظات أنّني أطير، كشعلةٍ خفيفةٍ في هواءِ الغرفة، بينما توجدُ جثةٌ غريبةٌ على السرير. تمنيتُ أنْ ترفضَ مارغريت خدماتِ سيمونو هذا. لقدْ شاهدته ثلاثَ أو أربعَ مراتٍ  في أثناءِ مرضي. كانَ يسكنُ غرفةٍ مجاورةً وبدا متعاونًا جدًا. أخبرتنا السَّيدةُ غابين أنّه عابرٌ منْ باريس، إذْ جاءَ ليجمعَ ديونَ والدهِ المُتوفى مؤخرًا. سيمونو هذا شابٌ وسيمٌ وقويٌّ جدًا. كنتُ أكرهه، ربما لأنّه ليس عليلاً.  زارنا مرَّةً أخرى بالأمس، وعانيتُ لرؤيته قربَ مارغريت، إذْ إنّها بدتْ جميلةً جدًا إلى جانبه. وقدْ أمعنَ في النظرَ إليها حينَ ابتسمتْ له قائلةً إنّها سعيدةٌ بزيارته ليطمئنَ عليّ.
-إنّه السَّيدُ سيمونو، قالتِ السَّيدةُ غابين.
دُفِعَ البابُ بهدوء، وما إن رأته مارغريت حتى غرِقَتْ بدموعها منْ جديد. حضورُ هذا الشخص، الرجلُ الوحيدُ الذي تعرفه، أيقظَ في داخلها ألمًا عميقًا. لمْ يحاولْ مواساتها. لمْ أتمكَنْ منْ رؤيته؛ لكنّي تمكنتُ منْ تخيُّلُ وجههِ الحائرِ والحزينِ لرؤيةِ زوجتي في يأسٍ مماثلٍ على الرغمِ منْ هذه الظلمةِ حيثُ أغرَق. لا بُدَّ أنّها كانتْ جميلةً رغمَ حُزنها، بشعرها الأشقرِ الجميل، ويديّها الصغيرتين اللتين تحرقهما الحمى.
-أنا في خدمتكِ سيدتي، نطقَ سيمونو، إنْ أنتِ قبلتِ سأتكفل بكلِّ التكاليف..
لمْ تجبهُ إلا بكلماتٍ مُتَقَطِعَة.
وحينَ همَّ سيمونو بالخروج، رافقته السَّيدة غابين. سمعتهما يتحدثانِ عنِ المالِ حينَ مرا بقربي؛ - هذا مكلفٌ جدًا، و السيَّدة غابين تخشى أنَّ زوجتي لا تملكُ سنتًا واحدًا. كانَ بإمكانهم سؤالها، لولا أنَّ سيمونو لمْ يشأ إزعاجها بأمورٍ كهذه. كانَ سيذهبُ للبلديّةِ ويطلبُ الإذنَ بالدَّفن.
حين عمَّ الصَّمتُ منْ جديد، عدتُ للتساؤل عمّا إذا هل سيستمرُ هذا الكابوس طويلاً هكذا. أنا حيٌّ ما دمتُ أتلقى إشاراتٍ منَ العالَمِ الخارجيّ. وبدأتُ أتساءلُ عنْ حالتي. لا بُدَّ أنّها منْ حالاتِ الإغماءِ التي سمعتُ أحدهم يتحدثُ عنها.
منذ صغري، و في ذُروةِ مرضيَّ العصبيّ، عانيتُ منْ فقدانِ الوعيِّ عدَّةَ مراتٍ لساعاتٍ طويلة.
إنّها نفسُ الحالةِ على ما أعتقد، غيرَ أنّها جعلتني متخشِبًا هذه المرَّة، ونشرتِ الذُّعرَ في من هم حولي.  سيعودُ قلبي للنبضِ حتمًا، وسيعودُ الدَّمُ للدورانِ أيضًا؛ سأستيقظُ وأواسي حبيبتي مارغريت. فكَّرتُ بهذه الطريقة لأحثَ نفسي على الصبر.
كانتِ السَّاعاتُ تمرّ. أحضرتْ السَّيدةُ غابين الأكلَ ورفضَتْ مارغريت كلَّ الطعام. ثمَّ مرَّتِ الظَّهيرة، وكانتِ الأصواتُ تتعالى في شارعِ دوفين وتعبرُ إلينا عبرَ النافِذةِ المفتوحة. ومع صوتُ حركةِ الشمعدانِ على رُخامِ المنضدةِ قربي، اعتقدتُ أنّهم يغيرونَ الشَّمعة. وأخيرًا، عادَ سيمونو.
-ماذا حدث؟ سألتهُ السَّيدةُ غابين بصوتٍ منخفض.
-لقدْ أتمَمْتُ العمل، وسيتمُ الدَّفن ُغدًا على السَّاعةِ الحاديةِ عشرة... لا تشغلوا أنفسكم بأيَّ شيء، ولا تتحدثي عنْ أيِّ شيءٍ لهذه الصغيرةِ المسكينة.
قالتِ السَّيدةُ غابين مع ذلك:
-لم يأتِ طبيبُ الموتى بعد.
ذهبَ سيمونو للجلوسِ قربَ مارغريت، واساها قليلاً ثمَّ صمت. سيتمُ الدَّفنُ غدًا صباحًا: تردَّدتِ هذه الكلماتُ في ذهنيّ كثيرًا. وذلك الطبيبُ الذي تدعوه السَّيدةُ غابين طبيبَ الأمواتِ لمْ يكنْ قدْ أتى بعد، ليخبرهم أنّه مجردُ سُباتٍ طويل. سيفعلُ ذلك حتمًا، وهو سيعرفُ كيفَ يوقظني. انتظرتهً على أحَرِّ منَ الجَّمر.
كانَ اليومُ يمرُّ بسرعة، وانتهتِ السَّيدةُ غابين إلى إحضارِ الآباجوراتِ خاصتها حتى لا تضيِّعَ وقتها. حتى إنّها أحضرتْ ديدي أيضًا، بعدَ استئذانِ مارغريت في ذلك، لأنّها - حسبَ تعبيرها – لا تفضِلُ تركَ الأطفالِ وحدهم طويلاً.
-هيا، ادخلي. قالتْ مخاطبةً الصبيّة، ولا تنظري في هذا الإتجاه وإلاّ سأعاقبك.
كانتْ تمنعُها عنِ النظرِ إليَّ لأنّها تراه غير ملائم. كانتْ ديدي تلقي نظرةً منْ حينٍ لآخر، إذ إنّني كنتُ أسمعُ  أمها تضربها على يدها بينَ الفينةِ والأخرى، وتقولُ غاضبةً:
-اعملي وإلا سأطردكِ منْ هنا. وسيقومُ هذا السَّيدُ بخطفِ رجليكِ في أثناءِ اللّيل.
كانتِ الأمُ وابنتها جالستانِ إلى الطاولة. وكنتُ أسمعُ صوتَ المَقصِ يخترقُ الآباجوراتِ التي تقطعانها. لا بُدَّ أنّها صلبةٌ وتتطلبُ مجهودًا كبيرًا لتقطيعها، فهمتُ هذا لأنَّ التقطيعَ كانَ بطيئًا: قمتُ بعدِ الآباجوراتِ التي قامتا بتقطيعها واحدةً واحدة – كانتْ هذه طريقتي في محاربةِ القلقِ الذي يستولي عليَّ شيئًا فشيئًا.
لمْ يُسْمَعْ في الغرفةِ سوى صوتِ المِقصات. لا بُدَّ أنَّ مارغريت قدْ غلبها التعب، ويبدو أنّها تغفو قليلاً. وقفَ سيمونو مرَّتين. تعذبتُ منْ فكرةِ أنّه يمرَّرُ شفتاه بينَ خصالِ شعرها. لمْ أكنْ أعرفُ هذا الرجل، لكنّني أحسستُ أنّهُ يحبُّ زوجتي. أدى صوتُ ضحكةٍ أطلقتها ديدي إلى انقطاعِ سيلِ أفكاري.
-لماذا تضحكين أيّتها الغبيّة؟ سألتها أمها. سأخرجكِ منَ المنزلِ إذا لمْ تتوقفي... أخبريني، ما الذي يضحكك؟
همهمتِ الطفلةُ ببضعِ كلمات. لمْ تضحك، بل سعلت.
اعتقدتُ أنّها رأتْ سيمونو يداعبُ مارغريت، وأنّها وجدتْ ذلك مضحِكًا.
كانَ الفانوسُ مشتعلاً حينَ تمَ طرقُ الباب.
-آه! إنّه الطبيب. قالتِ العجوز.
لقدْ كانَ الطبيبَ حقًا. لمْ يعتذرْ عنْ تأخرهِ حتى هذا الوقت. لا بُدَّ أنّه كانَ عليه صعودُ عدَّةَ طوابقَ خلالَ النهار. لمْ يكنِ الفانوسُ يضيءُ الغرفةَ جيدًا، ما دفعه للتساؤل:
-هل هذه هي الجثة؟
-نعم. أجابَ سيمونو.
وقفتْ مارغريت وهي تشعرُ بالخوف. وضعتْ السَّيدةُ غابين ديدي على الدَّرج، لأنّها صغيرةٌ جدًا على رؤيةِ ما سيحدث في الغرفة؛ و قادت ْزوجتي إلى النافذةِ لكيلا ترى ما سيفعله الطبيب.
اقتربَ الطبيبُ مني بخطوةٍ سريعة. فهمتُ أنّه كانَ متعبًا، مستعجلاً، ويريدُ الانتهاءَ بسرعة. هل لمسَ يدي؟  أوضعَ يدهُ على قلبي؟ لا أدري ماذا فعلَ بالضَّبط. أعتقدُ أنّه أدى عمله على غيرِ اهتمام.
-هل تريدُ أنْ أقرِّبَ الفانوسَ ليضيءَ لك؟ قالَ سيمونو في اهتمامٍ واضح.
-لا داعيَّ لذلك. أجابَ الطبيب بهدوء.
كيف؟! لا داعيَّ لذلك؟!  يمسك  هذا الرجلُ حياتي بينَ يديه، ويجدُ أنّه لا داعيَّ لإجراءِ فحصٍ دقيق. أنا لستُ ميّتًا! أردتُ أنْ أصرخَ بأعلى صوتي أنّني لستُ ميّتًا!
-في أيِّ ساعةٍ بالضَّبط حدثتِ الوفاة؟ تساءلَ الطبيب.
-في السَّاعةِ السادسةِ صباحًا. ردَّ سيمونو.
تصاعدَ غضبٌ شديدٌ في جميعِ أنحاءِ جسدي. لا أدري أيُّ قيدٍ هذا الذي يقيدني.
اللّعنة! أنْ لا تستطيعَ نُطقَ كلمةٍ واحدةٍ وأنْ لا تستطيعَ تحريكَ أيِّ جزءٍ منك!
أضافَ الطبيبُ:
-هذا الجوُ الحارُ سيئٌ جدًا... لا شيءَ متعبٌ أكثرَ منَ الأيامِ الأولى لفصلِ الربيع.
ثمَّ ابتعد. لقدْ كانتْ حياتي التي تبتعد. صراخٌ، دموعٌ، شتائمُ مكبوتةٌ في داخلي وتخنقني، تمزِّقُ حنجرتيَّ المتشنجةَ التي لمْ يعدِ الهواءُ يعبرُ منها. آه! هذا البئيسُ الذي حولته مهنته إلى آلة، والذي يذهبُ إلى سرائرِ الموتى بفكرةٍ واحدة: أنْ ينهيَّ الإجراءات. لمْ يكنْ يعرفُ شيئًا إذن، هذا الرجل! كلُّ علمه كانَ دجلاً إذن، إذْ إنّه لمْ يستطيعْ تمييزَ الحياةِ منَ الموتِ بنظرةٍ خاطفة! وها هو يذهب... ها هو يبتعد!
-عمتَ مساءً يا سيدي! قالَ سيمونو.
عمَّ صمتٌ المكان. لا بُدَّ أنَّ الطبيبَ انحنى لتحيّةِ مارغريت التي عادتْ بينما كانتِ السَّيدةُ غابين تُغْلِقُ النافذة. ثمَّ غادرَ الغرفة، سمعتُ وقعَ خطواته على السُّلَّم.
حسنًا، لقدْ قضيَّ الأمر، محكومٌ عليَّ بالموتِ الآن. تلاشَتْ آخر آمالي مع ذلك الرجل. إذا لمْ أستيقظْ قبلَ السَّاعةِ الحاديةِ عشرةَ منْ يومِ الغد، فسأدفنُ حيَّاً! هذه الفكرةُ وحدها كانتْ مخيفةً لدرجةِ أنّني فقدتُ الوعيَّ بما يدورُ حولي. كانَ الأمرُ وكأنّه إغماءٌ  في أثناءِ الموت. آخرُ صوتٍ سمعته كانَ صوتَ مِقصاتِ ديدي وأمها. ثمَّ خيَّمتْ اللّيلةُ الظَّلماء.

لمْ يعدْ أحدٌ يتحدث. رفضتْ مارغريت النومَ في غرفةِ الجيران. كانتْ هنا، نصفَ نائمةٍ على الكرسي بوجهها الجميل الشاحب، عيونها مغلقةٌ وأشفار جفونها ممتلئةٌ بالدموع؛ بينما كانَ سيمونو يراقبها وهو جالسٌ في الظَّلام.

... يُتبع



ترجمة: Achraf Nihilista

الأربعاء، 8 يوليو 2015

الجزء الأول: موت أوليفييه بيكاي - إميل زولا




تقديم: موت أوليفييه بيكاي - La Mort d'Olivier Bécaille هي قصة للكاتب و الروائي الفرنسيّ إميل زولا، نشرت لأول مرة بتاريخ 1884. ننشرها لأول مرة بالعربية على مدونة العدمي المستنير، على خمسة أجزاء، وهو عدد فصول القصة.








 الفصل الأول:




غادرتني الروحُ أحدَ أيامِ السبتِ على الساعةِ السادسةِ صباحًا، بعدَ ثلاثةِ أيامٍ من مكابدةِ المَرَض. كانتْ زوجتي المسكينة تقلِّبُ حقيبةً كبيرةً على الأرضِ حيث كانتْ تبحثُ عن كمادات.
حينَ رفعتْ رأسها ووجدتني متخشبًا، بعينين مفتوحتين، دون أدنى نفَس، سارعتْ تلامسُ يدي ووجهي معتقدةً أنّه قد أغميَ عليّ. وبعد ذلك تملكها الذُّعر. وتحتَ تأثيرِ هذه الصَّدمة، تَمْتَمَتْ:
-يا إلهي! يا إلهي! لقد مات.
كنتُ أسمعُ كلَّ شيء، ولكنَّ الأصوات كانتْ تضعفُ بحيث بدتْ لي بعيدة. وحدها عيني اليسرى كانتْ تلمحُ ضوءًا أبيضَ تغرقُ فيه كلُّ الأشياء. بينما عيني اليمنى متوقفةٌ تمامًا.
كانَ توقفًا تامًا للوعي في جميعِ أنحاءِ جسدي وكأنَّ الصاعقةَ قد ضربتني. ماتتْ إرادتي أيضًا، لم يعدْ أيُّ جزءٍ مني يخضعُ لي. وفي خضمِ هذا العَدَم، إذا تجاوزنا أعضائيّ الجامدة تمامًا، أفكاري وحدها كانتْ باقية، كسولةً وبطيئة، لكنْ في صفاءٍ منقطعِ النظير.
كانتْ مارغريت المسكينة جاثيةً على ركبتيها وتبكي أمامَ السرير، تردّدُ بصوتٍ متقطِعٍ:
-لقد مات، لقد مات، يا إلهي!
أكانَ هذا الموت إذن، هذه الحالةُ الفريدةُ من الفتور، هذا اللّحمُ المصابُ بالشّلل، بينما يبقى الفكرُ مشتغلاً؟ أكانتْ تلكَ روحي التي تأخرتْ داخلَ دماغي، قبلَ أنْ ترحلَ هي الأخرى؟ 
منذُ طفولتي وأنا أتعرَّضُ دائمًا لنوباتٍ عصبيّة. ومرتين في شبابي كادتْ حمى حادَّة أنْ تخطفني من الحياة. وبعد ذلك، اعتادَ النَّاسُ من حولي رؤيتي مريضًا؛ وأنا نفسي منْ ثنى مارغريت عنِ استدعاءِ طبيبٍ لما كنتُ نائمًا في صباحِ وصولنا إلى باريس، في هذا الفندق المفروش حيثُ نزلنا بشارعِ دوفين. بعضُ الرَّاحةِ ستكفي، إذ اعتقدتُ أنَّ السَّفرَ هو ما يرهقني بهذا الشَّكل. ومع ذلك، انتابني قلقٌ شديدٌ بخصوصِ حالتي هذه. غادرنا منطقتنا بسرعة، وكنا فقراءَ للغاية، نملكُ بالكادِ ما يجعلنا ننتظرُ راتبي الشهريّ الأولَ في الإدارةِ حيث ضمنتُ لنفسي عملاً. وها هي نوبةٌ مرَضِيّةٌ تخطفني من الحياة!
هل كان هذا الموت فعلاً؟ لقد تخيّلتُ أنّه سيكونُ أكثرَ حلكةً وصمتًا ومأساويّة. في طفولتي، كنتُ أهابُ الموت. كانَ الناسُ يربِتونَ على رأسي في شفقة، ولما كنتُ غبيًا اعتقدتُ أنّني لنْ أعيشَ طويلاً وأنّهم سيدفنوني في وقتٍ مبكِّر. فكرةٌ الدَّفنِ هذه خلقتْ لي فزعًا لم أتعايشْ معه أبدًا، حتى وهو يراودني ليلَ نهار. ومع مرورِ السنين، احتفظتُ بتلك الفكرة ثابتة. أحيانًا، ومع مرورِ الأيامِ كنتُ أعتقدُ أنّني تغلبتُ على مخاوفي. ولكن...
نحنُ نموت، الأمرُ محسوم؛ الكلُّ سيموتُ يومًا ما. لا شيءَ يمكنه أنْ يكونَ أفضلَ أو أكثرَ ملاءمة. في بعضِ الأحيانِ كنتُ أصِلُ درجةَ الابتهاجِ من ذلك: أرى الموتَ أمامي. ثمَّ تتملكني قشعريرةٌ تعيدني إلى حالةِ الخوفِ الأولى. كانتْ فكرةُ الدَّفنِ هي التي تعودُ وتبيدُ كلَّ ما سبقَ وفكرتُ به. أكثرُ من مرَّة، استيقظتُ فزِعًا من نومي، شابكًا يدي في يأس، ومردِّدًا في تلعثم: "يا إلهي، يا إلهي، لا بدَّ أنْ يموتَ المرء!" إنّه قلقٌ رهيبٌ يحبِسُ الأنفاس، ضرورةُ الموتِ بدتْ لي أمرًا مقيتًا أثناءَ اليقظة. ولم أكنْ أنامُ إلا بعناءٍ شديد، إذ إنَّ النومَ يرهبني بشبهه الكبيرِ بالموت: ماذا لو نمتُ إلى الأبد؟! ماذا لو أغمض عيني في هذه اللحظة ولا أفتحهما أبدًا بعدها؟!
لستُ أدري أيعاني شخصٌ غيري من هذا العذاب الذي قد أتعسَ حياتي! لقد وقفَ الموتُ بيني وبينَ ما أحبَبت. أتذكرُ لحظاتيّ السَّعيدةَ التي قضيتها إلى جانبِ مارغريت. حين كانتْ تنامُ إلى جانبي ليلاً في الشهورِ الأولى لزواجنا، حينَ أفكّرُ بها وأنا أضعُ خططًا للمستقبل، تأتي فكرةُ فراقٍ منتظرٍ لتفسِدَ بهجتي، وتدمِّرَ آمالي. لا بدَّ أنْ نفترق، إنْ لم يكنْ بعدَ ساعة، فبعدَ يوم... وانتابني إحباطٌ شديدٌ إزاءَ هذا، كنتُ أتساءل: ما جدوى أنْ نكونَ سعداءَ معًا إذا كانَ الأمرُ سينتهي بانفصالٍ قاسٍ جدًا؟ وهكذا، غرقتْ مخيلتي في الجنائزية، وتساءلتُ دائمًا، من سيرحلُ أولاً، أنا أم هي؟ وأيًا كانتِ الإجابةُ فقد كانتْ تستحثُ دموعي، إذ سأرى حياتنا وهي تنهارُ أمامي. في أفضلِ لحظاتِ وجودي، انتابتني نوباتُ ميلانخوليا فجائيّة لم يستطعْ أحدٌ استيعابها. لطالما اندهشَ الآخرون من السوداويّة التي أغرقُ بها أحيانًا حتى وأنا في قمةِ التحالفِ مع الحظ. يحدثُ هذا فجأة: تمرُّ فكرةُ العدمِ وتفسدُ بهجتي. سؤال "ما الجدوى؟" المروّعُ يتردَّدُ كالناقوسِ في أذني...
وأسوأ ما في هذا العذاب، أنّنا نضطرُ لمقاساتهِ في صمتٍ وسريَّة تامين. لا نستطيعُ ائتمانَ أيِّ شخصٍ على هذا السِّر. يحدثُ غالبًا بينَ الرجلِ وزوجهِ أنْ يرتجفا معًا وهما نائمان جنبًا إلى جنب، أنْ يرتجفا معًا في اللّحظة نفسها، حينَ تكونُ الغرفةُ معتمةً تمامًا؛ ولا أحدَ منهما يجرؤ على الكلام، لأنّنا لا نتحدثُ عنِ الموتِ إلا كمن ينطقُ ببعضِ الكلماتِ الفاحشة. لا شيءَ يخيفنا مثلَ الموت، حتى أنّنا لا نجرؤ على تسميته باسمه، نخفيه تمامًا كما نخفي أعضاءنا التناسليّة.
كنتُ أفكّرُ في هذه الأمور بينما كانتْ زوجتي الغالية تبكي إلى جانبي. لقد كانَ يؤلمني أنْ أراها هكذا دونَ أنْ أتمكنَ من إيجادِ طريقةٍ لتخفيفِ ألمها وإخبارها أنّني لا أعاني. إذا كانَ الموتُ هو تخدُّرُ الأعضاءِ حقًا، فقد كنتُ مخطئًا بخوفي منه. الموتُ رفاهيةٌ أنانيّة، استراحةُ أنسى بها جميع همومي. لقد اكتسبتْ ذاكرتي حيويّةً لا تصدق، ومرَّ شريطُ وجودي كلّه من أمامي كما لو أنّه عرضٌ أشاهدهُ أولَ مرَّة. إحساسٌ غريبٌ انتابني: وكأنَ ثمة صوتًا بعيدًا يسردُ لي وجودي كلّه.
كانَ هناك مكانٌ في منطقةِ غيراند، لم تغادرني ذكراه أبدًا. ثمة على طريقِ بيرياك غابةُ صنوبرٍ صغيرةٍ تنتهي إلى منحدرٍ صخريّ. كنتُ أذهبُ إلى هناك مع والدي وأنا في السابعةِ من عمري، إلى منزلٍ نصف متداعٍ لنأكلَ الفطائرَ عندَ عائلةِ مارغريت، كانَ والداها ملاحيّن يعيشانِ بالكاد من استخراج وبيع المِلح من الملاحات المجاورة لمنزلهم. بعدها، أتذكرُ فترةَ الإعداديّةِ في نانتْ حيث كبرتُ مع الضجرِ من الحيطانِ القديمة، حالِمًا بالمجالِ المفتوحِ للملاحاتِ الكبيرةِ أدنى المدينةِ في غيراند، والبحرِ الكبيرِ الذي يمتدُ حتى الأفق حيثُ يلتقي بالسَّماء. ثمة ثقبٌ أسودُ في ذاكرتي عن الفترةِ التي ماتَ فيها والدي ودخلتُ إدارةَ المستشفى كموظفٍ ذي حياةٍ رتيبة، بهجتها الوحيدة هي حين أذهبُ للمنزلِ القديمِ على طريقِ بيرياك أيامَ الأحد. كانتِ الأمورُ هناك تسيرُ من سيء إلى أسوإ، إذ لم تعدِ الملاحاتُ تجلبُ الشيءَ الكثير، وأصابَ الفقرُ كلَّ البلاد. كانتْ مارغريت حينها مجردَ طفلة.
كانتْ تحبني لأنّني كنتُ أتجولُ دافعًا العربةَ بها. بعد ذلك في الصبيحة التي طلبتها للزواج، فهمتُ من حركتها أنّها تجدني مقززًا. وافقَ والداها بسرعة، حيثُ إن طلبي الزَّواجَ منها كانَ بمثابةِ تحريرٍ لهما من عبئها ومصاريفها؛ وهي بمعرفتها بأوضاعهما، لم تجرؤ على الرفض.
حينَ تعودتْ على فكرةِ أنّها ستصيرُ زوجتي، لم تعدِ الأمورُ كما كانتْ بالنسبةِ لها. في يوم الزواج، كانتِ الأمطارُ غزيرة، ولما دخلنا المنزلَ اضطرَّتْ لتغيير ثوبِ الزفافِ لأنَه كانَ مبتلاً.
هذا كلُّ ما أذكرهُ من شبابي. عشنا هناك لبعضِ الوقت. وحينَ عدتُ للمنزل في إحدى الأيام، وجدتُ مارغريت غارقةً في دموعها، كانتْ تشعرُ بالضَّجرِ وتريدُ المغادرةَ  بأسرعِ وقت. وبعدَ ستةِ أشهرٍ تدبرتُ أمريَّ بالحصولِ على بعضِ المالِ من الأعمالِ الجانبيّة، وتمكَّنَ صديقٌ قديمٌ للعائلةِ من إيجادٍ مكانٍ لنا في باريس، وأخذتُ طفلتي الصغيرة لكيلا تبكي مرَّةً أخرى. كانتْ تضحكُ طوالَ الوقتِ في القطار، وفي المساء وضعتها على ركبتي لكي تنامَ بهدوء، لأنَّ مقاعدَ الدرجةِ الثالثة كانتْ صلبةً وقاسية.
ذلك كانَ الماضي. والآن، في هذه اللّحظة، متُ للتو على هذا السريرِ الضيّقِ في فندقٍ مفروش. بينما زوجتي جاثية على ركبتيها الى جانبي وتبكي بحرقة. الضوءُ الأبيضُ الذي ترصده عيني اليسرى يشحبُ شيئًا فشيئًا؛ لكنّني أتذكرُ الغرفةَ تمامًا.
على جانبي الأيسر كانَ الدرج، وعلى يميني المدفأة، وفي وسط المدفأةِ ساعةٌ ببندولٍ غير متزنٍ تشيرُ عقاربها إلى العاشرةِ وستِ دقائق. تطلُ نافذةُ الغرفةِ على شارعِ دوفين، المظلمِ والكبير.  باريس كلّها تعبرُ من هذا الشَّارع، ونتيجة لهذا الصخَب، كنتُ أسمعُ صوتَ اهتزازِ زجاجِ النوافذ. لم نتعرفْ على أحدٍ في باريس بعد. وصلنا هنا قبل وقتٍ طويلٍ من الإثنين الذي ينتظرونني به في الإدارة حيث كانَ من المفروضِ أنّني سأعمل. منذُ أنْ وصلنا وأنا ملقىً على السرير. كانَ إحساسًا غريبًا هذا الانعزالُ في غرفةٍ ألقتْ بنا الأقدارُ إليها بعدَ خمس عشرَة ساعةً من سفرٍ شاقٍ على متنِ القطار. تولتْ زوجتي رعايتي بابتسامتها ولطفها المعتادين؛ ولكنّي أستشعرُ مع ذلك قلقها. كانتْ تلقي من النافذةِ نظرةً من حينٍ لآخر، ثمَّ تعودُ مذعورةً من مشهدِ باريسَ الذي لم تتعوده عيناها وتتذمرُ منه لأقصى حد. وماذا ستفعلُ إن لم أستيقظ؟ ماذا سيحلُّ بها في هذه المدينةِ الكبيرة، وحيدة، دونَ دعمٍ من أحد، بالإضافة لجهلها بأبسطِ تفاصيلِ العيشِ في مكانٍ كبير؟
أخذتْ مارغريت يدي الجامدةَ من على السريرِ وقبلتها؛ وردَّدتْ بهوس:
-أوليفييه، ردَّ عليّ... يا إلهي! لقد مات! لقد مات!
لم يكنْ الموتُ مرادفًا للعدم إذن، كما كنتُ أتوقعُ وأتخيّل. لقد عذبتني فكرةُ العدمِ منذُ طفولتي. لم أقبلْ أنْ تنمحيَّ كينونتي كليًا، وأنْ يختفي ماضيَّ كلّه. وحتى بعدَ مضيّ قرون وقرون، لنْ أستطيعَ الانبعاثَ من جديد. لطالما اقشعرَّ بدني حينَ كنتُ أقرأ في بعضِ الجرائدِ تواريخَ لأحداثٍ في القرنِ القادم: منَ المؤكدِ أنّني لنْ أكونَ حيًّا حينها، وتلكَ السَّنةُ من المستقبلِ التي لنْ أكونَ موجودًا فيها وشاهدًا عليها، تقلقني بشدَّة. ألستُ أنا العالَم؟ أوليسَ توقفُ الزَّمنِ رهينٌ بتوقفي عن الوجود؟
أنْ أحلمَ بالحياةِ أثناءَ موتي، كانَ هذا أملي دائمًا. لكنّني لستُ ميّتًا. سأقومُ بعدَ لحظاتٍ حتمًا. نعم، نعم، سأقومُ بعدَ لحظات وأحتضِنُ مارغريت وأمسحُ عنها دموعها بيدي. أيُّ سعادةٍ في أنْ نلتقيَّ من جديد! خصوصًا وأنّنا سنحبُّ بعضنا البعض أكثر! سآخذُ إجازةٍ ليومين آخرين، وبعدهما أذهبُ للإدارة. ستبدأ حياةٌ أخرى لنا معًا، أكثرَ رفاهيةً وسعادة. لكنّني غيرُ مستعجل، وأشعرُ أنّني مقيّدٌ إلى هذا السرير. مارغريت مخطئةٌ في تشاؤمها لهذا الحد لمجرد أنّني لا أملكُ القوَّةَ لأديرَ رأسي وأبتسمَ لها.
بعدَ قليلٍ حينَ ستقول:
-يا إلهي! لقد مات! يا إلهي!
سأقبلها، وأهمسُ في أذنها بهدوءٍ لئلا أرعبها:
-لا يا صغيرتي الغاليّة. كنتُ نائمًا فحسب، ها أنا أمامكِ، حيٌّ وأحبّكِ...


... يُتبع


ترجمة: Achraf Nihilista

الثلاثاء، 7 يوليو 2015

الفلسفة والدَّعارة- سيوران

مختصر التحلّل
12





إميل سيوران




لوحة آنسات أفينيون -بيكاسو-


              
بحالِ منْ ضاقَ ذَرعًا بالعقائدِ والخرافاتِ ولكنَّهُ يستمِرُ في مجاراةِ الحياة؛ على الفيلسوفِ أنْ يحاكيَّ بيرونيَّةَ الأرصفةِ التي تتبناها أقلُّ الكائناتِ دوغمائيّةً: العَاهِرَة. قصيَّةٌ عنْ كلِّ شيءٍ ومنفتحةٌ على كلِّ شيء؛ تتبنى أمزِجَةَ وأفكارَ زبائنها؛ تغيّرُ لهجتها وسحنتها حسبَ الحالة؛ مستعدةٌ لأنْ تكونَ حزينةً أو طروبًا، باتخذاها موضعَ الحِياد؛ بسخائها بإطلاقِ التأوهاتِ لحساباتٍ تجاريّة؛ بمقابلتها ابتهاجَ راكِبها وجارها الصادِق بنظرةِ اتقادٍ مُصْطَنعةٍ-  فإنّها تقترحُ على الذهنِ منهجًا ينافسُ منهجَ الحُكماء. ألاّ يكونَ لديكَ أيّةُ قناعاتٍ بخصوصِ النَّاسِ وبخصوصِ نفسِك، هذا هو الدرسُ الأهمُ في الدَّعارة، مدرسةٌ مَشّائيِّةٌ لتنويرِ البصيرةِ على هامشِ المجتمع- كما هي الفلسفةُ ذاتُها. كلُّ ما أعرفهُ تعلمتهُ في مدرسةِ العَاهِرات! ينبغي أنْ تكونَ هذه العبارةُ شِعَارَ المفكّرِ الذي يقبلُ ويرفضُ كلَّ شيءٍ بعدَ أنْ يكونَ قدِ اتبعَ خطاهنَّ واحتَرَفَ الابتسامةَ الفاتِرة، عندما لا يعودُ يرى في الرجالِ سوى زبائن، وعندما تغدو الأرصِفةُ سوقًا يبيعُ فيه مَرَارَتَه، كما تبيعُ رفيقاتهُ أجسادهن.


من: Précis de décomposition

ترجمة: Shiva Okleh










الأربعاء، 24 يونيو 2015

اِبتهالٌ إلى الأرق - إميل سيوران


مختصر التحلل 11


اِبتهالٌ إلى الأرق




إميل سيوران











كنتُ في السابعةِ عشر، وآمنتُ بالفلسفة. وكلُّ ما كان لا يمتُ إليها بصلةٍ بدا لي إما خطيئةً أو حِطةً: الشعراء؟ مشعوذونَ لا يصلحونَ سوى لإبهارِ امرأةٍ ساذجة؛ الأفعال؟ حماقاتٌ بدافعٍ منَ الهذيان؛ الحبّ، الموت؟ أعذارٌ منحطةٌ للتملصِِ منْ شرفِ المفاهيم. روائحُ كريهة لكونٍ لا تليقُ بهِ روائحُ العقل . . .  المحسوس؟ يا لهُ منْ قذارة! البهجةُ والمعاناة، يا لهما منْ عار! وحدهُ التجريدُ بدا نابضًا بالحياة: وضعتُ نفسي في خدمةِ مآثر مُتعالية لئلا تجعلني مواضيعُ أكثر نبلاً أنحرفُ عنْ مبادئي وأستسلمُ لانحطاطِ القلب. قلتُ لنفسي مرارًا وتكرارًا: وحدها دارُ الدعارةِ متوافقةٌ معَ الميتافيزيقا، واتجهتُ - هربًا منَ الشعر- إلى أحضان الخادمات، إلى غنجِ الغواني. 
. . . في ذلكَ الحينِ جئتَ أيها الأرق، لتزعزعَ جسدي وكبريائي، أنت يا منْ يحوّلُ الاندفاعَ الصبياني، يمنحُ الوضوحَ للغرائز، الانتباهَ للأحلام، أنت يا منْ يهبُ في ليلةٍ واحدٍة معرفةً تفوقُ معرفةَ أياٍم نقضيها راقدين، وعلى الجفونِ المُحْمرّّةِ تكشفُ عنْ نفسكَ كحدثٍ أكثرَ أهميةً منَ الأمراضِ المجهولةِ ومنْ كوارثِ الزمن! أنتَ منْ جعلني أسمعُ شخيرَ الصِحة، إذْ لم يكنْ هنالك سوى كائناتٍ بشريةٍ غارقةٍ في غفلةٍ يصدرُ عنها شخيرٌ رنان، بينما احتكرتْ وحدتي الظلامَ المطبقَ وصارتْ أكثرَ جوعًا منَ الليل. كلُّ شيءٍ نامَ، نامَ إلى الأبد. لم يكنْ هنالك فجرٌ، سأظلُّ مستلقيًا هكذا حتى نهايةِ الزمن: سوفَ ينتظرونني عندها ليسألوني أنْ أفسرَ الرصيدَ الفارغَ منْ أحلامي. .  . كلُّ ليلةٍ كانتْ شبيهةً بالأخريات، كلُّ ليلةٍ كانتْ أبدية. شعرتُ بالصلةِ التي تجمع كلِّ أولئك الذين لا يستطيعونَ النوم، كلِّ أولئك الإخوةِ المجهولين. مثل المنحرفينَ والمتعصبين، كان لديِّ سرٌّ، ومثلهم أيضًا انتميتُ إلى قبيلةٍ بالنسبةِ لها كلُّ شيءٍ يمكنُ أنْ يبرر، أن يُعطى، أن يضحى بهِ -قبيلةُ الأرق. لقد منحتُ العبقريةَ لأولِ الأرقينَ الذي كانتْ جفونهُ ثقيلةً يكدها التعب. ولم أعجبْ إلا بعقلٍ ليس بوسعهِ أنْ ينام، حيثُ في ذلك العقِل إنّما يكمنُ مجدُ الدولة، مجدُ الفنِ أو الأدب. كنتُ على استعدادٍ لأنْ أعبدَ طاغيةً منْ أجلِ أنْ ينتقمَ منْ لياليه، سيذهبُ يحظرُ الراحة، يعاقبُ على الغفلة، يفرضُ الكارثةَ والحمى. 
في تلك المرحلةِ ناشدتُ الفلسفة؛ لكن ليس هنالك فكرةٌ بوسعها أن تستريحَ في الظلام، لا نسقَ فكريّ يمكنهُ أنْ يصمدَ أمامَ تلك السهرات، تحليلاتُ الُأرقِ تنقضُ كلَّ الثوابت. منهكًا بكلِّ ذلك الهدم، وصلتُ إلى الحدِ الذي قلتُ فيهِ لنفسي: لا ترنحَ بعدَ الآن- نمْ أو متْ. . . استعدِ النومَ أو اختفِ.
لكنَّ هذه الاستعادة ليستْ بالأمرِالهين: عندما تقتربُ منَ الوصولِ إليها، تدركُ عُمْقَ الأثرِالذي تركتهُ تلك الليالي عليك. أأنتَ واقعٌ في الحبّ؟ ستكونُ اندفاعاتكَ قد فسدتْ إلى الأبد؛ ستخرجُ منْ كلَّ نشوةٍ كأنكَ فزاعةُ لذة؛ ستقابلُ نظراتِ رفيقتكَ الأقرب بملامحِ سفاح؛ ستردُ على ايماءاتها الصادقةِ بتهيجٍ لذةٍ مسمومة؛ على برائتها بشعرٍ آثم، كلُّ شيءٍ سيغدو شعرًا بالنسبة إليك، ولكنّه شعرُ منْ أبياتِ الخطيئة . .  
أفكارٌ بلورية، تتابعٌ مرحٌ للأفكار؟ لنْ تعودَ تفكرُ بعدَ ذلك: سيكونُ فكركَ انفجارًا، حممًا منَ المفاهيم، بلا أيّةِ نهايةِ أو تنظيم، قيءٌ منَ الأفكارِ العدوانيةِ وانقذفَ منْ أحشائك، تعاقبُ الجسدَ على جَلدهِ لنفسه، يغدو العقلُ ضحيةً للمزاجٍ ويدفعُ خارجَ الحلبة. . . ستعاني منْ كلِّ شيء، وإمعانًا في التعذيب: ستبدو الرياحُ عواصف؛ كلّ لمسةٍ  طعنة؛ الابتساماتُ صفعات؛ التوافهُ كوراث. قد تصلُ حالةُ اليقظةِ إلى نهاية، ولكنَّ إشراقها يستمرُ في داخلك، لا حصانةَ للمرِء الذي يبصرُ في العتمة، لا يستطيعُ المرءُ أنْ يستخلصَ دروسها بدونِ أخطار؛ هنالك أعينٌ لا يعودُ بوسعها أنْ تتعلمَ شيئًا منَ الشمس، وهنالك أرواحٌ سقيمةٌ منَ الليلِ لنْ تشفى أبدًا. 



من: Précis de décomposition 

ترجمة : Shiva Okleh



السبت، 18 أبريل 2015

العدميون -أيضا- يحبون أمهاتهم.





نص عن ألبير كاراكو: العدميون -أيضا- يحبون أمهاتهم.







توطئة سريعة: هذا نص مترجم عن الفرنسية من المجلة الأسبوعية ماريان Marianne ، كتبه برونو دانيال لوران Bruno Deniel Laurent سنة 2012 عن المفكر المتشائم و السوداوي ألبير كاراكو.


أم ألبير كاراكو، التي تعود مناداتها بـ "السيدة الأم"





غداةَ الحربِ العالميةِ الثانية، استقرَ في أوروبا -التي كان مضطرًا للهروب منها-، تركيّ بجنسيةٍ أروغويانية، اختارَ لنفسهِ المهنةَ الوحيدة حيث يمكنه أن يمارس اللّعن. ركزَ غضبهُ على نفسهِ بالطبع، لكن أيضًا على فرنسا، النساء، الكنيسة الكاثوليكية، الأمل، الجنس، المسلمين و الكبرياء. كان تعريفه للعالم:"الجحيم المحكوم بالعدم". ارتبط ألبير كاراكو -اسم هذا الكاتب الغريب- بطريق الانتحار، لكنَّ حرصهُ على آداءِ أدوارهِ كابنٍ جعلهُ ينتظرُ وفاةَ آخرِ آبائه. في انتظار هذا الحدث المأساوي، حصرَ كاراكو نفسهُ في نوعٍ من الكتابة اليومية، مُسوِّدًا بذلك عشراتِ الدفاتر بشذراتٍ سامةٍ ملعونة، هي في نفس الوقت هستيرية و هادئة، مكتوبة إما بالألمانية، الإنجليزية، الإسبانية أو الفرنسية.

بعد أكثرَ من خمسٍ و عشرين سنة من العودة لأوروبا بقليل، توفي والده. لكن كاراكو وفى بوعده: شنق نفسه عام 1971 قرب جثة أبيه التي كانتْ لمّا تَبرد بعد. كما نرى، كان كاراكو من معدن غير معدن كتابنا اللعوبين "اليائسين" -سيوران، ماتزنيف و رولان جاكار- الذين ظلوا مستئنسين بانعكاس الضوء من على مسدساتهم الفارغة. بعيدًا عن منح إحساسٍ بيأسٍ مبتذلٍ ناتجٍ عن نوراستينيا تافهة، كان كاراكو باعتراف أحدِ ناشريه، كأنه منظرٌ للسوء، أو مهلوسٌ يسكنُ جسدَ ضابط. كان أسلوبه نثرًا رائعًا من القرن السابع عشر، نادرَ الاستعمال في وقتنا، مُرَكّزًا تركيزًا منهجيًا ضدَّ جميعِ أشكالِ الوجودِ الإنساني.

قبل وفاةِ الأب، توفيتْ "السيدة الأم" عام 1963. "بعد الوفاة" الكتاب المنشور لأولِ مرة عام 1968، والمعادُ نشره ضمن سلسلة ريفيزور Révisor بدار نشر "عصر الانسان"، و الذي يعدُ جوهرةَ حساسيةٍ وسط كتب كاراكو السوداوية. أمام جثة أمه الهامدة، يقتحمُ الكاتبُ أبوابَ اليأسِ الحميمي. الفقرة الرئيسية في كتابه "بعد الوفاة" كانت: "لقد ماتت السيدة الأم، و نسيتها منذ مدة، لحظة وفاتها تعود من حين لآخر إلى ذاكرتي، ولو حتى لساعات قليلة، فلنتحدث عن هذا قبل أن تضيع في غياهب النسيان. أتساءل هل أحبها؟ و أنا مجبر على الإجابة بـ لا، أنا أعاتب عليها إخصائي، هذا حقًا قليل، و لكن... (...) ثم هي من رمتني في العالم و وظيفتي كره العالم." في نظر كاراكو، أن يعاتب أمه لأنها منحته الحياة هو بمثابة تقييم للوجود.  "بعد الوفاة" يسرد آخر شهور المسكينة، إذ يعتبرُ كاراكو أنها أمثلَ طريقةٍ لدفن هذه الفترة معها: نحن إذًا أمام عدميّ غريب يحدثنا عن أمورٍ أكثرَ غرابةً، مثلَ حدسِ الأمومة، الأقمشة الحريرية وماكياج الأعين... الدعوة للقضاء على النوع البشري تتوقف، لفقرة واحدة، أمام وجهِ أمٍ حساسةٍ تشيخ، وأمام بهجتها البدائية التي تذبلُ شيئًا فشيئًا بتأثيرِ ورمٍ خبيثٍ غير معتاد.  جاءتْ أجملُ فقراتِ كتابِ "بعد الوفاة" بالمصادفة  نتيجةً للتناقض المباشر بين "اللامبالاة المزمنة" التي يتقنها كاراكو و بين الرقة التي يحملها لأمه، و التي لا يستطيعُ أن يوقفَ استفحالاتها. مع تقدم الكتاب، تتصدعُ مقاومةُ الابنِ شيئًا فشيئًا، و تظهرُ هفواته الصغيرة كأنها معجزات. "بعد الوفاة" هو قصيدة سوداء، من دون شك، لكنها تكشفُ أكثرَ الحقائقِ بريقًا: الجمالُ القذرُ في منحِ الحياة، والذي لا تستطيعُ أشدُّ نوباتِ اليأس، وأكثرها صرامةً، أن تدحضه.


ترجمة : Achraf Nihilista

الأحد، 23 نوفمبر 2014

مقتطفات من ألبير كاراكو




مقتطفات من ألبير كاراكو Albert Caraco: 



caraco
آلبير كاراكو







أُغلقَ العالمُ منْ جديد، عادَ كما كانَ قبلَ الاكتشافاتِ الكبرى، يميّزُ عامُ 1914 الانطلاقةَ الثانيةَ للعصورِ الوسطى و نعودُ إلى ما دعاهُ الغنوصيون بسجنِ الروحِ في العالمِ المنتهي الذي لنْ نخرجَ منه أبدًا.
من هذا التفاؤلِ الذي اكتسحَ عددا هائلاً من الأروبيين طوالَ أربعةِ قرون، دخلتِ النكبةُ التاريخ، فنتسائلُ فجأةً إلى أين نتّجه؟ و نتسائلُ أيضًا عنْ سببِ ما يحدثُ لنا. ثقةُ آبائنا في تقدمٍ إنسانيٍ بلا حدودٍ تمَّ اغتيالها: ندورُ في دائرةٍ و لا نستطيعُ حتى تصوّرَ ما صنعتهُ أيدينا.
هذا يعني أنّ أعمالنا قد تجاوزتنا، و أنَّ العالمَ الذي صنعهُ الإنسان، يتجاوزُ مرةً أخرى فهمه. مهما بنينا أكثرَ في ظلِّ الموت، يظلُّ الموتُ وريثًا لكلِّ منجزاتنا العظيمةِ و كلّما اقتربتْ ساعةُ الاحتضارِ نتجرّدُ أكثرَ منْ عاداتنا كما منْ ملابسنا، نحنُ نغادرُ عراة، لكي تتمَّ محاكمتنا، عراةً منِ الخارجِ و فارغينَ منَ الداخل، الهاويةُ أسفلنا و الفوضى أعلانا.



***



المدنُ التي نسكنها هي مدارسُ الموت، لأنّها غيرُ إنسانية. صارتْ كلُّ واحدةٍ منها مجمّعَ ضجيجٍ و نتانة، أصبحتْ كلٌّ منها فوضى مباني نحتشدُ فيها بالملايين، خاسرينَ بهذا مقوماتِ الحياة.
نجدُ أنفسنا تعساءَ بلا أملٍ داخلَ هذهِ المتاهةِ منَ العبثِ التي لا نخرجُ منها إلا أمواتًا، لأنَّ مصيرنا هو مضاعفةُ الهالكينَ مضاعفةً لا نهائيّة. في كلَّ مرّةٍ تتقدّمُ المدنُ الواحدة تلو الأخرى، تائقةً للاندماج، نحوَ فوضى مطلقة، منَ الضجيجِ و النتانة. في كلِّ مرةٍ ترتفع أثمانُ الأراضي، و في هذا التيهِ المعقّدِ الذي يبدّدُ الفضاءَ الحر، ترتفع عائداتُ الاستثمارِ يومًا بعدَ يوم. لأنّهُ منَ الأهميّةِ بمكانٍ للمالِ أنْ يشتغل، و للمدنِ التي نسكنها أنْ تتقدّم. و يبقى أيضًا مشروعًا لكلِّ جيلً أنْ يضاعفَ ارتفاعَ مبانيه، و أنْ يصلهُ الماءُ فيها مرّةً كلَّ يومين... البنّائونَ لا يسعَوْنَ إلا للتملصِ منْ قدرهم، و الرحيلَ للعيشِ في القرية.



***



" يموتُ كلٌ منا وحيدًا و كاملاً"، حقيقتانِ ترفضهما الأغلبية؛ لأنّ الأغلبيةَ تناُم كلَّ الوقتِ الذي تحياهُ وتخشى أنْ تستيقظَ لحظةَ الهلاك.
العزلةُ هي إحدى مدارسِ الموتِ التي لنْ يصلها العاميُّ أبدًا، الكمالُ لا يكونُ خارجها، بل هو أحدُ جوائزِ العزلة. و إذا كانَ لابدَّ منْ تقسيمِ البشر، فهم ينقسمونَ إلى ثلاتِ أنواع : المسرنمون (1)، وهم وحدة؛ و العقلاءُ و الحساسونَ وحدةٌ أخرى، إنهم أولئك الذين يعيشونَ حياتهم على جبهتين، و الذين -رغم علمهم بما ينقصهم- يبحثونَ عمَّا هو بعيدُ المنالِ و لنْ يجدوهُ أبدًا؛ ثم الروحانيون ثنائيو الولادة، الذين يتجهونَ نحوَ الموتِ بخطواتٍ متساوية، ليموتوا في نفسِ الوقتِ وحيدينَ و كاملين. لا يختارونَ الزمانَ ولا المكانَ و لا الطريقة، معلنينَ بذلك رفضهم للطوارئِ و الإحتمالات.
إن المسرنمين همُ الوثنيون، العاقلونَ و الحساسونَ هم المؤمنون؛ أما الروحانيون ثنائيو الولادة، فهم يعشقونَ ما لا يقدر على تخيّلهِ الأوائل، و ما لنْ يستطيعَ تصوّرهُ العاقلاء الحساسون، إنّهم بشرٌ كاملونَ و هكذا لن يذهبوا بحثًا عمَّا وجدوه، بل و لنْ يحبوه، لأنهُ يكمنُ بداخلهم.

(1) المسرنم هو من يسير أثناء نومه


***



نتّجهُ صوبَ الموتِ كسهم يتّجهُ إلى هدفٍ لا يضيّعهُ أبدًا، الموتُ هو يقيننا الوحيدُ و نعلمُ دائمًا بأنّنا سنموتُ مهما اختلفَ الزمانُ و المكان و الطريقة. لأنَّ الحياةَ الأبديةَ مرادفةٌ لللامعنى، الأبديةُ نقيضُ الحياة، الموتُ هو الطمأنينةُ المنشودة، الحياةُ و الموت ُمترابطان، و من يطلب شيئًا آخرُ لنْ ينالَ إلا السرابَ جزاءً.
نحنُ، منْ لا نشتري الكلمات، نوافقُ على أنْ نضمحلَّ و نؤكّدُ موافقتنا، لم نخترْ أنْ نولدَ و نتوقّعُ أن نكونَ سعداءَ بأنْ لا نحيا في أيِّ مكانٍ آخرَ في هذهِ الحياةِ التي فرضتْ علينا أكثرَ مما أعطتنا، حياةٌ مليئةٌ بالقلقٍ و الآلام، بأفراحٍٍ إمّا مريبةٍ أو سيئة.
إنسانٌ سعيد؟ ماذا عسى هذا أن يثبت؟ السعادةُ حالةٌ شاذةٌ و نحنُ لا ننظرُ إلا في مجملِ قوانينِ هذا النوع، هي التي نتأملُ و هي التي نُعمِّق . نحنُ نكرُه أيًا ممنْ يبحثونَ عنِ المعجزة، و لا نتوقُ إلى النعيم. بديهياتنا تكفينا وسطوعنا لا يخمدُ في أيِّ مكانٍ آخر.



***



حرٌ هو الإنسانُ وفي الوقتِ نفسهِ مقيّد، أكثرُ حريّةً مما يتصور، و أكثرُ تقييدًا مما يتخيّل. يفرضُ النظامُ أنْ لا تستيقظَ أبدًا جماعةُ الأمواتِ المكوّنةِ أساسًا منْ مسرنمين، لأنّهم يصيرونَ صعابَ المراسِ حينَ يستيقظون. ليس النظامُ صديقًا للإنسان، إذْ يكمنُ دورهُ في حكمه، و قلّما يهدفُ إلى جعله يلين، و نادرًا ما يهدف إلى جعله أكثرَ إنسانيةً.
يجعلُ اعتبارُ النظامِ معصومًا منِ الأخطاءِ الحربَ سبيلاً لتصحيحِ أخطاءه، و كلما ازدادت أخطاءُ النظامِ أكثرَ فاكثر، اتجهنا نحو الحرب أكثر. المستقبلُ و الحربُ يبدوان متلازمين. وهكذا فإنَّ اليقينَ الوحيدَ -الموت- هو في كلمةً واحدة، المعنى لكلِّ الأشياء، و الإنسان هو شيءٌ أمامَ الموت، و الشعوبُ أيضًا ستصير شيئًا مثلَ الإنسان، كانَ التاريخُ دائمًا شغفًا، و مجموع ضحاياه، أيْ العالم الذي نعيش به، هو الجحيمُ المحكومُ بالعدم، حيثُ يرفضُ الإنسان معرفةَ نفسهِ مفضلاً التضحيةَ بها على ذلك، التضحيةَ بنفسهِ كما تفعُل العديدُ منَ الأنواعِ الحيوانيّةِ الأخرى، يفضّلُ التضحيةَ بنفسهِ مثل سربِ جرادٍ أو جيشِ جرذان، متخيّلاً أنَّ الهلاكَ يرفعُ قدره، وراغبًا أنْ يهلك معهُ رغبةً هائلة ، دونَ وعي، عالمهُ الذي يعيشُ فيه.




ترجمة و إعداد : Achraf Nihilista

الاثنين، 3 نوفمبر 2014

بخصوص ترجمة كتاب مساوئ أن يكون المرء قد ولد/ De l'inconvénient d'être né




مساوئ أن يكون المرء قد ولد:


 / مساوئ أن يكون المرء قد ولدDe l'inconvénient d'être né

كتابٌ شارفتْ ترجمته على الانتهاء وسيكون متاحًا للقراءة كاملا قريبا جدا.














في كتابه هذا: مساوئ أن يكون المرء قد ولد، يؤكد سيوران على أن الولادة هي الهزيمة الأكبر للإنسان، وأن كل مساعيه للتألق وتحصيل المعرفة هي محاولات لترقيع لتلك الهزيمة التي لا تُرقع، عدا عن تأكيده أن ذلك الإنسان القديم البليد والنذل الأبله لا يزال يقيم بقوة داخل الإنسان الحديث.وبم أن المصير المؤكد الذي جلبته الولادة هو الموت والاختفاء؛ فإنه يدعو الإنسانية إلى تشييد معابد للموت كما شيدت معابدا  للحياة والآلهة و جعل المقابر وجهتها الروحية. يدعونا سيوران إلى الإقرار بالهزيمة الشخصية وبفشل المغامرة الإنسانية ككل،إذ قد نجد في ذلك الإقرار بعض السكينة في عالم لا خلاص فيه. يكاد "نبي الأرق ورسول العدم" يدعونا بعد تعريضه بكل الآباء والمنجبين وبكل أفكار الخلاص والهوس الجنسي إلى"إخصاء الإنسانية". إلى أين نحن ذاهبون؟ أنتم لا تعدون اتجاه الموت إنكم تفرون من فاجعة الولادة..وإننا نخطئ حين نظن أنه لا نفع يرجى من الموت ونرتد بذلك إلى هاوية الولادة الأشد سحقًا وغورًا : هكذا يجيبنا سيوران بعد تنقيبه في لا وعيه ولا وعينا. بل إن الانحطاط البشري يقاس عنده بمقدار اختفاء الشعوب و القبائل التي تقيم الحداد والمأتم عند الولادة.  لا يخفي سيوران إعجابه بالعقائد الغنوصية والمانوية والبوغولومية..إلخ  كل تلك العقائد "بعيدة النظر" التي تجرم الولادة وتضع هذا العالم تحت سلطة الشيطان.. لم ينس بوذا بالطبع، لكن حسه الساخر أو إحساسه الخارق بالخيبة كما يسميه جعلا من محاولة اتباع خطاه أو خطى أي حكيم آخر غير ممكنة بل حتى هزلية. مهما يكن مقدار السوداوية الظاهر في هذا الكتاب؛ فإن القارئ بعد إنهائه يشعر بصفاء روحي وشيء من الإشراق. هذا الكتاب هو مجموع تجارب وجودية ميتافيزقية شكوكية صوفية دينية هرطوقية حادة فكاهية و سوداوية. نهاية لا بد من الإشارة إلى أن سيوران ذكر في إحدى مقابلاته أنه إذا كان عليه أن يتمسك بشيء كتبه فهو سيتمسك بالصفحات السبع الأخيرة من السقوط من الزمن وكتاب مساؤئ أن يكون المرء قد ولد، سيتمسك بكل كلمة فيه.  




شذرات من الكتاب



الثالثةُ بعدَ منتصفِ الليل. أرصدُ عبورَ هذهِ الثانية، ثمَّ التي بعدها، ثمَّ التي تليها: أُعِدُ ميزانيةً لكلِّ دقيقة. ولمَ كلُّ هذا؟ لأنني ولدت. الطعنُ في معنى الولادةِ مصدرهُ أرقٌ منْ نوعٍ خاص.

***


نحنُ لا نعدو باتجاهِ الموت، نحنُ نهربُ منْ فاجعةِ الولادة، إننا مجموعةُ هاربينَ متعاركينَ نحاولُ نسيانَ تلكَ المأساة. ليسَ الخوفُ منَ الموتِ سوى إسقاطٍ لخوفٍ يعودُ للحظتنا الأولى على المستقبل.
يرعبنا –بالتأكيد- التفكيرُ في الولادةِ ككارثة إذ لقنونا أن الولادةَ أمرٌ جيد، و أنَ الأسوأَ موجودٌ في نهايةِ مسارنا و ليسَ في بدايته. السوءُ في الحقيقة موجودُ خلفنا لا أمامنا. هذا ما فاتَ المسيح و ما أدركه بوذا : "لو لم توجدْ هذِه الثلات، أيها المريدون، ما كان للعظيمِ أن يظهرَ في العالم. " و قبلَ الشيخوخةِ و الوفاة، كاَن يَعُدُ الولادةَ مصدرًا لكلِّ العللِ و الكوارث.

***

لا أغفرُ لنفسي أنني ولدت. كما لو أنني بانسلالي إلى هذا العالمِ قد انتهكتُ سرًا، حنثتُ عهدًا مقدسًا، ارتكبتُ خطأً لا حدودَ لفداحته. ومع ذلك في مِزاجٍ أقل حدة، تبدو لي الولادةُ فاجعةً كنتُ سأكونً تعيسًا بعدمِ معرفتها.


***


أنْ لا تولد، مجردُ التفكيرِ في ذلك- يالهُ منْ سعادة، يا لهُ منْ حرية، يا لها منْ مساحة!


***


"على قيدِ الحياة" فجاةً أجدُني مصدومًا بغرابةِ تعبيرٍ كهذا، كما لو أنهُ لا ينطبقُ على أحد.


***

أيامٌ يسودها العقم. بدَل أنْ أبتهجَ بها، أنْ أعلنَ الانتصار، أنْ أحوِلَ جفافي إلى عيد، أنْ أراها شاهدًا على نضجي، أتركُ غيظي وسوء مزاجي يجتاحانني، يا لعنادِ الإنسانِِ القديم المقيمِ داخلنا، الوغدِ المضطرب، العاجز عن إزالةِ نفسه.


***


لقد أفرطتُ في استخدامِ كلمة" اشمئزاز". لكن من سواها تسعفني في الإشارةِ إلى حالةٍ لا ينفكُ فيها الإعياءُ عنْ إزاحةِ الغيظ، والغيظُ عنْ إزاحة الإعياء؟


***



أستمعُ إلى ريبورتاج حالةِ الطقس، تعتريني رغبةٌ في الترنمِ مع الكلمات" أمطارٌ متناثرة". ما يثبتُ قطعًا أنَّ الشِعرَ في دواخلنا وليسَ في التعبير، كأنَ "متناثرة" صفةٌ قادرةٌ احداثِ ذبذباتٍ خاصة.  

***


"لا يستطيعُ المرءُ أنْ يعيشَ بلا دوافع"، لم تتبقَ لديَّ أيّةُ دوافع، ولا زلتُ أعيشُ مع ذلك.

***

 ليسَ الموتُ حدثًا دونَ جدوى تمامًا. بفضلِه قد يكونُ بوسعنا استعادةُ الفضاءِ السابقِ للولادة، فضائنا الوحيد...

***

في بحثهِ عنِ " الانبعاثِ الروحي"، يسافرُ غوغول إلى الناصرة ويكتشفُ أنهُ سئمٌ كما كانَ في " سكة الحديد الروسية" –هذا ما يحدثُ لنا جميعًا حينَ نبحثُ خارجَ أنفسنا عمّا هو موجودٌ في الداخلِ فقط.

***

الموتُ هديةُ السماءِ لأولئكَ الذينَ سيمتلكونَ موهبةَ وذوقَ الإخفاق- جائزةُ كلِّ اللذينَ لم يفعلوا شيئًا، والذين لم يرغبوا في فعلِ شيء... إنهُ يشرعهم، إنهُ أسلوبهم في الظفر. وفي المقابل، للآخرين، لأولئكَ الذين كدحوا في سبيلِ النجاح، والذين حققوه: يا لهُ منْ جحود، يا له منْ صفعةٍ.





ترجمة : Shiva Okleh و Achraf Nihilista