الأربعاء، 8 يوليو 2015

الجزء الأول: موت أوليفييه بيكاي - إميل زولا




تقديم: موت أوليفييه بيكاي - La Mort d'Olivier Bécaille هي قصة للكاتب و الروائي الفرنسيّ إميل زولا، نشرت لأول مرة بتاريخ 1884. ننشرها لأول مرة بالعربية على مدونة العدمي المستنير، على خمسة أجزاء، وهو عدد فصول القصة.








 الفصل الأول:




غادرتني الروحُ أحدَ أيامِ السبتِ على الساعةِ السادسةِ صباحًا، بعدَ ثلاثةِ أيامٍ من مكابدةِ المَرَض. كانتْ زوجتي المسكينة تقلِّبُ حقيبةً كبيرةً على الأرضِ حيث كانتْ تبحثُ عن كمادات.
حينَ رفعتْ رأسها ووجدتني متخشبًا، بعينين مفتوحتين، دون أدنى نفَس، سارعتْ تلامسُ يدي ووجهي معتقدةً أنّه قد أغميَ عليّ. وبعد ذلك تملكها الذُّعر. وتحتَ تأثيرِ هذه الصَّدمة، تَمْتَمَتْ:
-يا إلهي! يا إلهي! لقد مات.
كنتُ أسمعُ كلَّ شيء، ولكنَّ الأصوات كانتْ تضعفُ بحيث بدتْ لي بعيدة. وحدها عيني اليسرى كانتْ تلمحُ ضوءًا أبيضَ تغرقُ فيه كلُّ الأشياء. بينما عيني اليمنى متوقفةٌ تمامًا.
كانَ توقفًا تامًا للوعي في جميعِ أنحاءِ جسدي وكأنَّ الصاعقةَ قد ضربتني. ماتتْ إرادتي أيضًا، لم يعدْ أيُّ جزءٍ مني يخضعُ لي. وفي خضمِ هذا العَدَم، إذا تجاوزنا أعضائيّ الجامدة تمامًا، أفكاري وحدها كانتْ باقية، كسولةً وبطيئة، لكنْ في صفاءٍ منقطعِ النظير.
كانتْ مارغريت المسكينة جاثيةً على ركبتيها وتبكي أمامَ السرير، تردّدُ بصوتٍ متقطِعٍ:
-لقد مات، لقد مات، يا إلهي!
أكانَ هذا الموت إذن، هذه الحالةُ الفريدةُ من الفتور، هذا اللّحمُ المصابُ بالشّلل، بينما يبقى الفكرُ مشتغلاً؟ أكانتْ تلكَ روحي التي تأخرتْ داخلَ دماغي، قبلَ أنْ ترحلَ هي الأخرى؟ 
منذُ طفولتي وأنا أتعرَّضُ دائمًا لنوباتٍ عصبيّة. ومرتين في شبابي كادتْ حمى حادَّة أنْ تخطفني من الحياة. وبعد ذلك، اعتادَ النَّاسُ من حولي رؤيتي مريضًا؛ وأنا نفسي منْ ثنى مارغريت عنِ استدعاءِ طبيبٍ لما كنتُ نائمًا في صباحِ وصولنا إلى باريس، في هذا الفندق المفروش حيثُ نزلنا بشارعِ دوفين. بعضُ الرَّاحةِ ستكفي، إذ اعتقدتُ أنَّ السَّفرَ هو ما يرهقني بهذا الشَّكل. ومع ذلك، انتابني قلقٌ شديدٌ بخصوصِ حالتي هذه. غادرنا منطقتنا بسرعة، وكنا فقراءَ للغاية، نملكُ بالكادِ ما يجعلنا ننتظرُ راتبي الشهريّ الأولَ في الإدارةِ حيث ضمنتُ لنفسي عملاً. وها هي نوبةٌ مرَضِيّةٌ تخطفني من الحياة!
هل كان هذا الموت فعلاً؟ لقد تخيّلتُ أنّه سيكونُ أكثرَ حلكةً وصمتًا ومأساويّة. في طفولتي، كنتُ أهابُ الموت. كانَ الناسُ يربِتونَ على رأسي في شفقة، ولما كنتُ غبيًا اعتقدتُ أنّني لنْ أعيشَ طويلاً وأنّهم سيدفنوني في وقتٍ مبكِّر. فكرةٌ الدَّفنِ هذه خلقتْ لي فزعًا لم أتعايشْ معه أبدًا، حتى وهو يراودني ليلَ نهار. ومع مرورِ السنين، احتفظتُ بتلك الفكرة ثابتة. أحيانًا، ومع مرورِ الأيامِ كنتُ أعتقدُ أنّني تغلبتُ على مخاوفي. ولكن...
نحنُ نموت، الأمرُ محسوم؛ الكلُّ سيموتُ يومًا ما. لا شيءَ يمكنه أنْ يكونَ أفضلَ أو أكثرَ ملاءمة. في بعضِ الأحيانِ كنتُ أصِلُ درجةَ الابتهاجِ من ذلك: أرى الموتَ أمامي. ثمَّ تتملكني قشعريرةٌ تعيدني إلى حالةِ الخوفِ الأولى. كانتْ فكرةُ الدَّفنِ هي التي تعودُ وتبيدُ كلَّ ما سبقَ وفكرتُ به. أكثرُ من مرَّة، استيقظتُ فزِعًا من نومي، شابكًا يدي في يأس، ومردِّدًا في تلعثم: "يا إلهي، يا إلهي، لا بدَّ أنْ يموتَ المرء!" إنّه قلقٌ رهيبٌ يحبِسُ الأنفاس، ضرورةُ الموتِ بدتْ لي أمرًا مقيتًا أثناءَ اليقظة. ولم أكنْ أنامُ إلا بعناءٍ شديد، إذ إنَّ النومَ يرهبني بشبهه الكبيرِ بالموت: ماذا لو نمتُ إلى الأبد؟! ماذا لو أغمض عيني في هذه اللحظة ولا أفتحهما أبدًا بعدها؟!
لستُ أدري أيعاني شخصٌ غيري من هذا العذاب الذي قد أتعسَ حياتي! لقد وقفَ الموتُ بيني وبينَ ما أحبَبت. أتذكرُ لحظاتيّ السَّعيدةَ التي قضيتها إلى جانبِ مارغريت. حين كانتْ تنامُ إلى جانبي ليلاً في الشهورِ الأولى لزواجنا، حينَ أفكّرُ بها وأنا أضعُ خططًا للمستقبل، تأتي فكرةُ فراقٍ منتظرٍ لتفسِدَ بهجتي، وتدمِّرَ آمالي. لا بدَّ أنْ نفترق، إنْ لم يكنْ بعدَ ساعة، فبعدَ يوم... وانتابني إحباطٌ شديدٌ إزاءَ هذا، كنتُ أتساءل: ما جدوى أنْ نكونَ سعداءَ معًا إذا كانَ الأمرُ سينتهي بانفصالٍ قاسٍ جدًا؟ وهكذا، غرقتْ مخيلتي في الجنائزية، وتساءلتُ دائمًا، من سيرحلُ أولاً، أنا أم هي؟ وأيًا كانتِ الإجابةُ فقد كانتْ تستحثُ دموعي، إذ سأرى حياتنا وهي تنهارُ أمامي. في أفضلِ لحظاتِ وجودي، انتابتني نوباتُ ميلانخوليا فجائيّة لم يستطعْ أحدٌ استيعابها. لطالما اندهشَ الآخرون من السوداويّة التي أغرقُ بها أحيانًا حتى وأنا في قمةِ التحالفِ مع الحظ. يحدثُ هذا فجأة: تمرُّ فكرةُ العدمِ وتفسدُ بهجتي. سؤال "ما الجدوى؟" المروّعُ يتردَّدُ كالناقوسِ في أذني...
وأسوأ ما في هذا العذاب، أنّنا نضطرُ لمقاساتهِ في صمتٍ وسريَّة تامين. لا نستطيعُ ائتمانَ أيِّ شخصٍ على هذا السِّر. يحدثُ غالبًا بينَ الرجلِ وزوجهِ أنْ يرتجفا معًا وهما نائمان جنبًا إلى جنب، أنْ يرتجفا معًا في اللّحظة نفسها، حينَ تكونُ الغرفةُ معتمةً تمامًا؛ ولا أحدَ منهما يجرؤ على الكلام، لأنّنا لا نتحدثُ عنِ الموتِ إلا كمن ينطقُ ببعضِ الكلماتِ الفاحشة. لا شيءَ يخيفنا مثلَ الموت، حتى أنّنا لا نجرؤ على تسميته باسمه، نخفيه تمامًا كما نخفي أعضاءنا التناسليّة.
كنتُ أفكّرُ في هذه الأمور بينما كانتْ زوجتي الغالية تبكي إلى جانبي. لقد كانَ يؤلمني أنْ أراها هكذا دونَ أنْ أتمكنَ من إيجادِ طريقةٍ لتخفيفِ ألمها وإخبارها أنّني لا أعاني. إذا كانَ الموتُ هو تخدُّرُ الأعضاءِ حقًا، فقد كنتُ مخطئًا بخوفي منه. الموتُ رفاهيةٌ أنانيّة، استراحةُ أنسى بها جميع همومي. لقد اكتسبتْ ذاكرتي حيويّةً لا تصدق، ومرَّ شريطُ وجودي كلّه من أمامي كما لو أنّه عرضٌ أشاهدهُ أولَ مرَّة. إحساسٌ غريبٌ انتابني: وكأنَ ثمة صوتًا بعيدًا يسردُ لي وجودي كلّه.
كانَ هناك مكانٌ في منطقةِ غيراند، لم تغادرني ذكراه أبدًا. ثمة على طريقِ بيرياك غابةُ صنوبرٍ صغيرةٍ تنتهي إلى منحدرٍ صخريّ. كنتُ أذهبُ إلى هناك مع والدي وأنا في السابعةِ من عمري، إلى منزلٍ نصف متداعٍ لنأكلَ الفطائرَ عندَ عائلةِ مارغريت، كانَ والداها ملاحيّن يعيشانِ بالكاد من استخراج وبيع المِلح من الملاحات المجاورة لمنزلهم. بعدها، أتذكرُ فترةَ الإعداديّةِ في نانتْ حيث كبرتُ مع الضجرِ من الحيطانِ القديمة، حالِمًا بالمجالِ المفتوحِ للملاحاتِ الكبيرةِ أدنى المدينةِ في غيراند، والبحرِ الكبيرِ الذي يمتدُ حتى الأفق حيثُ يلتقي بالسَّماء. ثمة ثقبٌ أسودُ في ذاكرتي عن الفترةِ التي ماتَ فيها والدي ودخلتُ إدارةَ المستشفى كموظفٍ ذي حياةٍ رتيبة، بهجتها الوحيدة هي حين أذهبُ للمنزلِ القديمِ على طريقِ بيرياك أيامَ الأحد. كانتِ الأمورُ هناك تسيرُ من سيء إلى أسوإ، إذ لم تعدِ الملاحاتُ تجلبُ الشيءَ الكثير، وأصابَ الفقرُ كلَّ البلاد. كانتْ مارغريت حينها مجردَ طفلة.
كانتْ تحبني لأنّني كنتُ أتجولُ دافعًا العربةَ بها. بعد ذلك في الصبيحة التي طلبتها للزواج، فهمتُ من حركتها أنّها تجدني مقززًا. وافقَ والداها بسرعة، حيثُ إن طلبي الزَّواجَ منها كانَ بمثابةِ تحريرٍ لهما من عبئها ومصاريفها؛ وهي بمعرفتها بأوضاعهما، لم تجرؤ على الرفض.
حينَ تعودتْ على فكرةِ أنّها ستصيرُ زوجتي، لم تعدِ الأمورُ كما كانتْ بالنسبةِ لها. في يوم الزواج، كانتِ الأمطارُ غزيرة، ولما دخلنا المنزلَ اضطرَّتْ لتغيير ثوبِ الزفافِ لأنَه كانَ مبتلاً.
هذا كلُّ ما أذكرهُ من شبابي. عشنا هناك لبعضِ الوقت. وحينَ عدتُ للمنزل في إحدى الأيام، وجدتُ مارغريت غارقةً في دموعها، كانتْ تشعرُ بالضَّجرِ وتريدُ المغادرةَ  بأسرعِ وقت. وبعدَ ستةِ أشهرٍ تدبرتُ أمريَّ بالحصولِ على بعضِ المالِ من الأعمالِ الجانبيّة، وتمكَّنَ صديقٌ قديمٌ للعائلةِ من إيجادٍ مكانٍ لنا في باريس، وأخذتُ طفلتي الصغيرة لكيلا تبكي مرَّةً أخرى. كانتْ تضحكُ طوالَ الوقتِ في القطار، وفي المساء وضعتها على ركبتي لكي تنامَ بهدوء، لأنَّ مقاعدَ الدرجةِ الثالثة كانتْ صلبةً وقاسية.
ذلك كانَ الماضي. والآن، في هذه اللّحظة، متُ للتو على هذا السريرِ الضيّقِ في فندقٍ مفروش. بينما زوجتي جاثية على ركبتيها الى جانبي وتبكي بحرقة. الضوءُ الأبيضُ الذي ترصده عيني اليسرى يشحبُ شيئًا فشيئًا؛ لكنّني أتذكرُ الغرفةَ تمامًا.
على جانبي الأيسر كانَ الدرج، وعلى يميني المدفأة، وفي وسط المدفأةِ ساعةٌ ببندولٍ غير متزنٍ تشيرُ عقاربها إلى العاشرةِ وستِ دقائق. تطلُ نافذةُ الغرفةِ على شارعِ دوفين، المظلمِ والكبير.  باريس كلّها تعبرُ من هذا الشَّارع، ونتيجة لهذا الصخَب، كنتُ أسمعُ صوتَ اهتزازِ زجاجِ النوافذ. لم نتعرفْ على أحدٍ في باريس بعد. وصلنا هنا قبل وقتٍ طويلٍ من الإثنين الذي ينتظرونني به في الإدارة حيث كانَ من المفروضِ أنّني سأعمل. منذُ أنْ وصلنا وأنا ملقىً على السرير. كانَ إحساسًا غريبًا هذا الانعزالُ في غرفةٍ ألقتْ بنا الأقدارُ إليها بعدَ خمس عشرَة ساعةً من سفرٍ شاقٍ على متنِ القطار. تولتْ زوجتي رعايتي بابتسامتها ولطفها المعتادين؛ ولكنّي أستشعرُ مع ذلك قلقها. كانتْ تلقي من النافذةِ نظرةً من حينٍ لآخر، ثمَّ تعودُ مذعورةً من مشهدِ باريسَ الذي لم تتعوده عيناها وتتذمرُ منه لأقصى حد. وماذا ستفعلُ إن لم أستيقظ؟ ماذا سيحلُّ بها في هذه المدينةِ الكبيرة، وحيدة، دونَ دعمٍ من أحد، بالإضافة لجهلها بأبسطِ تفاصيلِ العيشِ في مكانٍ كبير؟
أخذتْ مارغريت يدي الجامدةَ من على السريرِ وقبلتها؛ وردَّدتْ بهوس:
-أوليفييه، ردَّ عليّ... يا إلهي! لقد مات! لقد مات!
لم يكنْ الموتُ مرادفًا للعدم إذن، كما كنتُ أتوقعُ وأتخيّل. لقد عذبتني فكرةُ العدمِ منذُ طفولتي. لم أقبلْ أنْ تنمحيَّ كينونتي كليًا، وأنْ يختفي ماضيَّ كلّه. وحتى بعدَ مضيّ قرون وقرون، لنْ أستطيعَ الانبعاثَ من جديد. لطالما اقشعرَّ بدني حينَ كنتُ أقرأ في بعضِ الجرائدِ تواريخَ لأحداثٍ في القرنِ القادم: منَ المؤكدِ أنّني لنْ أكونَ حيًّا حينها، وتلكَ السَّنةُ من المستقبلِ التي لنْ أكونَ موجودًا فيها وشاهدًا عليها، تقلقني بشدَّة. ألستُ أنا العالَم؟ أوليسَ توقفُ الزَّمنِ رهينٌ بتوقفي عن الوجود؟
أنْ أحلمَ بالحياةِ أثناءَ موتي، كانَ هذا أملي دائمًا. لكنّني لستُ ميّتًا. سأقومُ بعدَ لحظاتٍ حتمًا. نعم، نعم، سأقومُ بعدَ لحظات وأحتضِنُ مارغريت وأمسحُ عنها دموعها بيدي. أيُّ سعادةٍ في أنْ نلتقيَّ من جديد! خصوصًا وأنّنا سنحبُّ بعضنا البعض أكثر! سآخذُ إجازةٍ ليومين آخرين، وبعدهما أذهبُ للإدارة. ستبدأ حياةٌ أخرى لنا معًا، أكثرَ رفاهيةً وسعادة. لكنّني غيرُ مستعجل، وأشعرُ أنّني مقيّدٌ إلى هذا السرير. مارغريت مخطئةٌ في تشاؤمها لهذا الحد لمجرد أنّني لا أملكُ القوَّةَ لأديرَ رأسي وأبتسمَ لها.
بعدَ قليلٍ حينَ ستقول:
-يا إلهي! لقد مات! يا إلهي!
سأقبلها، وأهمسُ في أذنها بهدوءٍ لئلا أرعبها:
-لا يا صغيرتي الغاليّة. كنتُ نائمًا فحسب، ها أنا أمامكِ، حيٌّ وأحبّكِ...


... يُتبع


ترجمة: Achraf Nihilista

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق