السبت، 25 يوليو 2015

الجزء الرابع: موت أوليفييه بيكاي - إميل زولا





للوصول للجزء الأول: يرجى الضغط هنا.
للوصول للجزء الثاني: يرجى الضغط هنا.
للوصول للجزء الثالث: يرجى الضغط هنا.


الفصل الرابع:


كم منَ الوقتِ سأبقى على هذه الحالِ؟ لا أدري.
الثّانيةُ الوَاحدةُ تساوي الأبديّة حينَ يتعلّقُ الأمرُ بالعدمِ. لمْ أعد موجوداً. عادَ وعيي شيئاً فشيئاً. كنتُ ما أزالُ نائماً، وسرعانَ ما بدأتُ أحلمُ. نجحَ كابوسٌ في التّحررِ من القاعِ الأسودِ الّذي يحدّ أفقي. وذلك الحلمُ الّذي كنتُ به هو إحدى تخيّلاتي الغريبة الّتي عذّبتني طويلاً في الماضي، بعينين مفتوحتين، حينَ كانتْ تُساعدُني طبيعتي المُتقبّلةُ للبشاعةِ على تذوّق هذه اللّذة الشّنيعةِ في خلقِ مصائبَ لِنَفسي.
تخيّلتُ إذن أنّ زوجتي تنتَظرني في مكانٍ ما، فِي غيراند، وأنّني أَخَذتُ القطارَ لأصلَ إليها، وبينما يَعبرُ هذا القِطارُ نفقاً، وصَلَنا صوتُ انفجارِ. كان هذا صوتَ انهيارَيْنِ صخريينِ حدثَا في الوقتِ نفسِه. لم يلحق القطارَ أيّ أذى؛ فقط مدخلُ و مخرجُ النّفق اللّذَيْنِ أغلقَا. و هكذا حُبِسنَا داخلَ جبلٍ  بَينَ حجرَيْنِ كبيرَيْنِ للغاية. و بقينا على هذه الحالِ حتى تيقنّا أنّها لحظاتُنا الأخيرةُ، إذْ لم يكن هناك أيّ أملٍ للإنقاذِ أو النّجاةِ؛ يَلزمُهُم شهرٌ كاملٌ على الأقل ليفتحوا إحدى الجِهتيْنِ؛ وحتّى إنْ تحمّلنا ذلك الشّهر، فإنّ عمليّةَ الإنقاذِ في غايةِ الخطورةِ و تتطلّبُ حذراً كبيراَ وآلاتٍ ضخمة. وجدنا إذن أنفسنا سجناءَ في كهفٍ دون مخرجٍ. لم يكن موتنا جميعاً إذن إلّا مسألةَ ساعاتٍ.
دائما ما تكرّر هذا الحدَثُ المُريعُ في ذهني. وكنتَ أطوّرُ هذه الدْراما إلى ما لا نهاية. لديّ العديدُ من الشّخوصِ في ذهني، من أطفالٍ ورجالٍ و نساء، أكثر من مائةِ شخصٍ، يتعاونون لمنحي حلقاتٍ جديدة كلَّ مرّة. كانت هنالك بعض الاحتياطات في القطارِ؛ لكن سرعانَ ما تناقصَ الطّعامُ، وقبلَ أن يبلغوا مرحلةَ أكلَ بعضِهم بعضاً، كان هؤلاء المساكينُ الجَوْعَى يتقاتلون حتّى آخرِ قطعةِ خبزٍ. رأيتُ رجلًا طاعناً في السّن يحتضرُ بعد أن ضربهُ أحدهم؛ وأُمًّا تقاتِلُ كالذّئابِ لحمايةِ آخر ثلاثِ أو أربعِ مُضَغٍ من أجلِ طِفلِها. وفي العربةِ حيث ركبتُ، كان هناك شابّ حديثُ العهدِ بالزّواج ملتصقٌ بزوجته ولا يكاد يفارقها، لم يأملا في أيّ شيءٍ، و لم يتحرّكَا أبداً. كانت الطريقُ مفتوحةً، والنّاسُ ينزِلونَ و يطوفونَ جميعَ أنحاءِ القطارِ كوحوشٍ مسعورةٍ تبحثُ عن فريسةٍ. اختفَتِ الطّبقاتُ تماماً، كان هناك رجلٌ غنيٌّ جداً، وهو موظّف عالي المقام، يبكي معانقاً عاملاً، ويحدثّه بصيغةِ المُفردِ كما يحدّث أصدقاءهُ. بعد مرورِ ساعاتٍ قليلةٍ، انطفأت جميعُ الأنوارِ، وأضواءُ قمرةِ القيادةِ أُضمِرت هي الأخرى. حين كانوا يمرّون من عربةٍ إلى أخرى، كانوا يتحسّسون الطّريقَ بيدهم خِشيةَ السّقوطِ أو الارتطامٍ بشيءٍ ما، ومَشوا بهذه الطّريقةِ حتّى بَلغوا قُمرةَ القيادةِ النّائمةِ، بقوّتها الكبيرةِ الّتي لا تفيدُ وصَمتِها وسُكونِها في الظّلام. لا شيءَ ينشُرُ الرّعبَ أكثرَ من هذا القطارِ، المحبوسِ كليًا تحتَ الأرضِ، كأنّه مدفون حياً. مع المسافرينَ به الّذين يموتونَ واحداً تلو الآخر.
تمالكتُ نفسي وخرجتُ من القطارِ، أصواتُ الصّراخ تنتشِر في الظّلام.
فجأةً، سقط شخصٌ على كتفي، كان شخصاً لم يسبقْ ليّ أنْ رأيتُه ولم اكنْ أَعلمُ حتّى بوجودِه. لكن، ما عانَيْتُ منه خصوصاً، كان البردَ وقلّة الهواءِ. لم يسبِق لي أن شعرتُ بالبردِ لهذه الدّرجة؛ سَقطتْ عليَّ كمّية كبيرةٌ من الثّلجِ، وكانتِ الرّطوبةُ الخانقةُ تطبقُ على رأسي. كِدتُ أختنقُ مع كلِّ هذا، كأنَّ الصّخرةَ الّتي تحدّ النّفق موضوعةٌ على صدري، وكأنّ الجبلَ نزلَ بكلّ ثقله عليّ. في خضم ذلك كلّه، سمعتُ صوتَ صراخٍ. منذ مدّة ونحن نسمعُ ضجيجاً يأتي من بعيدٍ، وكنا نقول في أنفسنا إنّهم يعملونَ على إنقاذنا وإنَّ ذلك هو مصدرُ الضّجيجِ.  لكنَّ الخلاصَ لم يأتِ منْ هناك، وجدَ أحدُ الأشخاصِ ثقباً في النّفقِ، وركضنا مجتمعين باتّجاهِ هذا الثّقب الّذي تراءتْ لنا بقعةٌ زرقاءُ من خلاله. أوه! يا لها منْ سعادة، هذه البقعة الزّرقاء! لقد كانتِ السّماء. كنا نتقدّم صوْبها لنتنفّس. لاحظنا نقاطًا سوداءَ تتحرّك في الأعلى، لا بدّ أنّهم عمّال القطارِ يسعوْن لإنشاءِ رافعةٍ بغرضِ إنقاذنا. انطَلَقَتْ صيحةٌ حماسيّةٌ في الفضاءِ:
"لقد نجونا! لقد نجونا!" خَرجتْ موحّدةً من جميعِ الأفواهِ، بينما كانت أيادي الجميع مرفوعةً باتجاهِ البقعةِ الزّرقاءِ.
كانت حدّة وحماسّةُ صيحاتِهم الِتي أيْقظتني. أيْن أنا؟ في النّفقِ بلا شكّ! وجدتُ نفسي مستلقياً، وتحسّستُ على يميني و يساري جِدارانِ قويّان يمنعانني من الحرَكَة. أَرَدْت النّهوضَ، ولكن رأسي ارتَطمَ بشيءٍ قاسِ. هلْ كان هذا الحَجرُ مطبقاً عليَّ منْ كلِّ الجهاتِ؟ حتى أن البقعةَ الزّرقاءَ اختفت تماما. لم أعد ألمحُ السّماءَ ولوْ حتى من بعيدٍ. بالكادِ كنتُ أتنفّس، وأقشعرّ جسدي منَ الخَوفِ.
وتذكّرتُ فجأةً كلّ شيءٍ. شعرتُ بخوفٍ شديدٍ منَ الحقيقةِ غيرِ المرغوبة التي سرَتْ في جسمي كلّه، من أسفلِ قدمي حتّى أعلى رأسي. هل خرجتُ أخيراً من هذا الإغماءِ الّذي أصابني لساعاتٍ طويلةٍ بتخشّبٍ تامٍ؟ نعم، أنا قادرٌ على تحريكِ يدي في كافّة أنحاءِ هذا النّعش. بقي أمرٌ واحدٌ لأتأكّد من أنّني حيّ: فتحتُ فمي و نطقتُ منادياً مارغاريت بعفويّة. ناديتُها صارخاً، وتردّد الصّوتِ في هذا المكانِ جعلهُ يبدو مرعباً لدرجة أنّني ارتعدتُ عندَ سماعهِ، يا إلهي!
هل هذا حقيقيٌ؟ إنْ كان كذلكَ فهذا يعني أنّه بإمكانيَ المشيُ، والصّراخُ أنني حيّ، لكنّ صراخي لن يُسمع، لأنّني محبوسٌ في صندوقٍ ومدفونٌ تحت الأرضِ.
تطّلب منّي الأمرُ الكثيرَ من الجهدِ لأهدأَ وأعودَ إلى رشدي. أ لا توجدُ وسيلةٌ للخروجِ من هنا؟ عدتُ للحلمِ منْ جديدٍ إذْ لم أكن صلبَ التّفكيرِ بعد. ذهبتُ بخيالي للثّقب في النّفقِ و البقعةِ الزّرقاءِ، مع واقعِ الحُفرةِ حيثُ أختنق. كانت عينايَ مفتوحتانِ في الظّلام وتبحثانِ عبثاً عن ثقبٍ أو فتحةٍ ينفذُ منهَا شعاعُ ضوءٍ. وحدها شراراتُ نارٍ كانت تظهرُ من حينٍ لآخرَ، تظهرُ حمراءَ واضحةً، تكبرُ ثم تضمرُ. لا شيءَ، هوّةٌ سحيقةٌ مظلمةٌ لم أستطِع استيعابَها. بعدها استعدتُ وعيي وأبعدتُ عني ذلك الكابوسَ. كان عليَّ أنْ أستعيدَ عقلي كلّه إنْ أنا أردتُ بلوغَ الخلاصِ. أوّلُ وأكبرُ خطرٍ أواجههُ هو تناقصُ الهواءِ والاختناقِ. لا شكَّ أنّني بقيتُ مدّةً طويلةً دونَ هواءٍ، ذلك عائدٌ للإغماءِ الّذي عطّلَ كلَّ جسدي؛ لكن الآن وقلبي ينبضُ ورئتايَ تتنفّسانِ، سأموتُ اختِناقاً. وإذا لم أخْرُج سريعاً، سأعاني أيضاً من البردِ، ولَكَمْ أخشى أن أموتَ بهذا الخدرِ القاتلِ الّذي يصابُ به أولئك الّذين يسقطونَ في الجليدِ، دون أن تعودَ لهم القُدرةُ على الوقوفِ.
و أنا أكرّرُ لنفسي أنّني يجبُ أنْ ألتزمَ الهدوءَ، اجتاحَت موجةُ حماقةٍ أخرى دماغي. ومن ثمَّ أخرجتُ منه كلَّ ما أعرفُه عنْ طرائِق الدّفن. دون شكٍّ، أنا في قبورِ الخمسِ سنواتٍ؛ منحني ذلك بعضُ الأملِ، لأنّني لاحظتُ ذلك منْ قبلُ في نانت، إنَّ هذا النّوعَ منَ القبورِ يتركُ قدمَ آخرِ نعشٍ مدفونٍ ظاهرةً، سيكفيني إذن كسرُ الخَشبةِ أمامَ رجلي لأهرُبَ. لكن إنْ كنتُ في قَبرٍ لوحدي، فهذا يعني أنّه ثمّة  كميّةٌ هائلةٌ منَ التُّرابِ تعقوني.
لقد سمعتُ في الماضي أنّهم يدفنونَ بعمقِ ستة أقدامٍ في باريس. كيف سأحفِر عبر تلك الكتلةِ منَ التّراب؟ حتى وإنْ نجحتُ في فتحِ النّعش، ألن تنفذَ إليّ التربة كرمل دقيقٍ وتملأ فمي وعيني؟ وسيكون ذلكَ أكثرَ منْ مجرّدِ وفاةٍ، ستكونُ وفاةً شنيعةَ، غرقاً في الطّين.
رغم ذلك، تحسّست بيدي كلَّ ما حولي. كان النّعش كبيراً بما يكفي لأحرك يدي بأريحية. لم يتركوا أيَّ ثقبٍ في الغطاءِ العلوي. في اليمين و اليسار، لم تكنِ الأخشابُ مقطوعةً بشكلٍ جيّدٍ لكنّها كانت قويّة وصلبةً. جمعت يديّ على مستوى صدري، لأرفَعَهُما إلى رأسي. وهناكَ، اكتشفتُ عقدةً في خشبةِ الطّرفِ تُفتحُ بسهولةٍ تحتَ الضّغط؛ عملتُ بجهدٍ كبيرٍ على فتحِها، وحينَ أخرجتُُ إصبعي، عرفتُ نوعَ التّربة، كانت تربةً طينيّةً مبلّلةً. لكنَّ هذا لنْ يقودني إلى شيءٍ، حتّى إنّني ندمتُ على فتحِ هذه العقدةِ كما لو أنَّ التّربةَ كانتْ ستَدخل. تجربةٌ أخرى كانتْ تشغَلني: أنْ أضربَ على جنباتِ النّعش لأرى هل هناكَ منْ فراغٍ حولي. لكنَّ الصّوتَ كان نفسهُ. ولأنّني كنتُ أضربُ بقدمي على الطّرف الآخرِ، اعتقدتُ أنَّ الصّوت مختلفٌ منْ هناكَ، ربّما الأمرُ راجعٌ لطبيعةِ الخَشبِ. وهكذا بدأتُ دفعاتٍ خفيفةٍ بيدايَ نحوَ الأمامِ، ولأنَّ الخَشبَ كانَ قويًّا، استعنتُ بركبتيّ، مستندًا على القَدمينِ ووسطِ الجسمِ. لم يحدثْ أيُّ شيءٍ، ما دفعني إلى أنْ أستعملَ كلَّ قوّتي، و أدفعَ بكاملِ جسدي، على نحوٍ شديد، حتى بدأتُ أسمعُ صوتَ عظامي،  في تلك اللّحظةِ استشطتُ غضباً.
حتى الآن، قاومتُ الدّوارَ ونوباتِ الغضبِ الّتي تتصاعدُ من حينٍ لآخرَ في جسدي كالسّم، وحرصتُ حرصاً شديداَ على كتمانِ صراخي، لأنّني علمتُ أنّني إنْ صرختُ سينتهي أمري. ولكنْ بعدَ لحظةٍ، بدأتُ في الصّراخِ والعَويلِ، لقد تجاوزَني هذا تماماً. كنتُ أصرخُ طالباً النجدةَ بأصواتٍ خارجةٍ منْ حنجرتي ولم أستطِعْ تمييزها. كلُّ نداءٍ غيرِ مستجابٍ كان يزيدُ منْ توتّري ويجعلني أصرخُ أكثرَ وأكثرَ لأنّني لا أريدُ المَوتَ. ثمَّ خدشتُ الخشبَ بأظافري، كنتُ أتشنّج مثلَ ذِئبٍ محبوس. كم منَ الوقتِ ستدومُ هذه الورطة؟ لا أعلم، لكنّني أشعرُ بصلابِة هذا النّعش الّذي لم يَلِن، كانتْ تتردّدُ في أذني عاصِفةُ الصّراخِ والضّربِ الّتي قُمتُ بها توّا. كنتُ أريدُ منعَ نفسي عَن ذلكَ لكنّني لم أستطِع.
أدى ذلك كلّه إلى موجةِ حُزْن. كنتُ أنتظرُ الموتَ وأنا داخلَ غيبوبةٍ مقيتة. هذا النَّعشُ أقربُ ما يكونُ إلى الحَجَر، لنْ أتمكنَ منْ إحداثِ شقٍّ به؛ وهذا اليقينُ بهزيمتي جعلني غيرَ قادرٍ على الحركة، وأفقدني أيّةَ رغبةٍ في المحاولةِ منْ جديد. انضمتْ معاناةٌ جديدةٌ إلى البَردِ والاختناق، معاناةُ الجُوع. أنا أضْعُفُ شيئًا فشيئًا، وهذا العذابُ يصيرُ غيرَ محتمل. حاولتُ أنْ أدخل بإصبعي بعضَ التُرابِ منَ العُقدة التي فُتِحَتْ سابقًا لآكله، ما ضاعفَ عذابيّ كثيرًا. كنتُ أعضُّ يدي، دونَ أنْ أجرؤ على خمشِها. لحمي يغويني لأكله، لحستُ جلديّ دونَ أنْ أملُكَ الشّجاعةَ لأغرسَ أسناني به.
آهٍ كم كنتُ أتمنى الموتَ في هذه اللّحظات! ارتعبتُ طيلةَ حياتي منَ العدم، والآن أريده، أرغبُ به، مهما كانتْ حِلكته، فلنْ يكونَ أحلكَ منْ هذا الوضع. أيّةُ صبيانيّةٍ في أنْ ترفضَ النّومَ دونَ أحلام، هذا الصمتَ المقفِرَ والظلامَ الأبديّ! ليسَ الموتُ جيّدًا إلاّ لأنّه يمحي الوجودَ بضربةٍ واحدة، دونَ عودة. آه! أنْ ترقُدَ مثلَ الأحجار، أنْ تتحللَّ وسطَ الطِين، أنْ لا توجدَ بعد!
 استمرتْ يدايّ في تحسُسِ الخَشبِ بطريقةٍ آلية. فجأةً، شعرتُ بوخزةٍ في إبهامِ يدي اليُسرى، ساعدني هذا الألمُ الخفيفُ على الاستيقاظِ منْ تأملاتي. ما كانَ هذا إذن؟ أعدتُ التحسسَ منْ جديد، وعرفتُ أنّه مِسمار. مسمارٌ غرسه متعهدو الدَّفنِ في النَّعش لكنّه لم يمسكِ الخشب. كانَ مسمارًا طويلاً وحادًا يمسِكُ رأسه غطاءَ النّعش، لكنّي أحسستُ أنّه يتحركُ كثيرًا. منذُ تلك اللّحظة، استحوذتْ عليَّ فكرةٌ واحدة: أنْ أنتزِعَ ذلك المسمار. مرَّرْتُ بيديّ اليمنى منْ على بطني وشرعتُ بتحريكه. لم يفضِِ ذلك العملُ المضني إلى شيء. كنتُ أبدِلُ اليدين كثيرًا، لأنَّ يديّ اليسرى كانتْ قريبةً منْ مكانِ المسمار، ما كانَ يؤدي إلى إرهاقها بسرعة. بينما كنتُ منهمِكًا في العمل، كانَ ذهني يعملُ ويخطِط. لقد صارَ هذا المسمارُ مُفتاحَ نجاتي، صرتُ أريده بأيِّ ثمن. أمازالَ في الوقتِ متسع؟ الجوعُ يقتلني، اضطرّرتُ للتوقفِ خوفًا منْ دوارٍ يشلُّ يدي، بدأ تركيزي يتداعى. لحسْتُ القطراتِ القليلةَ التي تسيلُ منْ إبهامي. ثمَّ انتهيتُ لقضمِ يدي، وشربِ دمي. دُفِعْتُ تحتَ تأثيرِ الألمِ وهذا النبيذِ الأحمرِ الذي يبللُّ شفاهيّ إلى الشُروعِ في العملِ منْ جديدٍ بقوَّةٍ أكبر. لقد نجحتُ في اقتلاعِ المسمار.
 منذُ هذه اللّحظة، آمنتُ بالنّجاح. كانتْ خطتي بسيطة: أنْ أُدْخِلَ الجهةَ الحادةَ منَ المسمارِ في الخشبِ وأرسمَ خطًا مستقيمًا طويلاً قدرَ المُستطاع، أنْ أنبشَ بالمسمارِ جيئةً وذهابًا لحدِّ إحداثِ شرخٍ في الخشبة. بدأتْ يدايّ في التصلّب، لكنّني كنتُ مُصّرًا. بعدَ  انقضاءِ مدّةٍ على هذه الحال، اعتقدتُ أنّني أضعفتُ الخشبَ بما يكفي، ففكرتُ أنْ أستديرَعلى بطني وأحاولَ الوقوفَ مُستنِدًا على اليدينِ و الركبتين، دافعًا الخشبَ بالجزءِ الأوسطِ منْ جسمي. ولكنْ، إنْ لم ينفتحْ هذا النّعش، فذلك يعني أنّني لم أنبشْ بالمسمارِ كفايةً، وأنَّ الشرخَ لم يكنْ عميقًا بما يكفي. كانَ عليَّ أنْ أستديرَعلى ظهريّ منْ جديدٍ وأستمرَ بالنّبش، ما كلفني جهدًا كبيرًا.
أخيرًا حاولتُ منْ جديد، هذه المرَّةُ انفتحَ النّعشُ منْ الأعلى كاملاً، في الحقيقة، لم أكنْ قد نجوتُ بعد، لكنَّ الأملَ استولى على قلبي.
 توقفتُ عنْ الدفعِ وعنِ الحركة، مخافةَ أنْ أقومَ بحركةٍ خاطئةٍ تؤدي إلى دفني تحت التراب. كانتْ خطتي أنْ أستعملَ غطاءَ النّعشِ كحمايةٍ ليّ منَ الترابِ بينما أحاولُ شقَّ مخرجٍ فيه. للأسف، كانَ هذا العملُ صعبًا للغاية: كانتْ تلك الكتلُ الطينيّةُ تفلتُ وتحدثُ تصدعاتٍ في الخشبِ مُصعِبَةً عليَّ المهمة؛ لنْ أبلغَ السطحَ أبدًا، إذ إنَّ الترابَ كانَ يضغطُ على عموديّ الفقريّ ويدفعني للأسفلِ في التراب.
تملكني الخوفُ حينَ مدَّدتُ رجليّ للأمامِ باحثًا عنْ نقطةٍ أستندُ إليها، ووجدتُ أشبه ما يكونُ بالفراغِ يتلو الخشبةَ التي تحدُّ النّعش، وكانتْ تبدو ضعيفةً حينَ أضغطُ عليها. رفستُ بقوَّةٍ بأسفل قدمي، معتقدًا أنَّ ثمة حفرةً في ذلك المكان، أنَّ هنالك حفرةً أخرى خلصوا منْ حفرها.
فجأةً، أحسستُ برجلي في الفراغ. كانتْ نبوءتي صحيحة: توجدُ حفرةٌ جديدةٌ هناك. لم يكنْ أمامي سوى حاجزٍ ترابيّ ضعيفٍ أحفره حتى أخرج. يا إلهي! لقد نجوت!
بقيتُ ممدَّدًا على ظهري للحظةٍ وعيني على الثقبِ في الأسفل، كانَ الوقتُ ليلاً، والنجومُ متوهجةٌ في السّماء. يصلُّ منْ حينٍ لآخر بردٌ خفيفٌ ليذكرني بجوِّ الربيع. يا إلهي! لقد نجوت، إنّني أتنفس، أشعرُ بالحرارة، أبكي ناطقًا كلامًا غيرَ مفهوم، ويدايّ مفتوحتانِ أمامَ الفضاءِ الشاسع. آه! ما أجملَ أنْ يعودَ المرءُ للحياة!






...يُتبع



ترجمة: Achraf Nihilista

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق