(3)خطاب نهيلستي مهمش لمصلحة السلطة ..حشد التصورات (الخيّام نموذجاً)د.سامي أدهم
من ديوجين وخطاب الهاوية في لغة الجوارات التي تدنو من حافة العدم الى الخيام الذي يرفع الراح ويشكك بالعُلى ويحارب بالكُؤوس المترعة طغيان المعتزلة والأشعرية وجميع أشكال الكبت الديني،ينساب الزمن وترفع دول وتؤسس ديانات عالمية فينبثق اللامعنى، والفراغ،والعدم ، ويظهر المنظر الرهيب بإطلالة إنسانوية تراجيدية.أما الاعتراف على باب هيكل الموت ، على حافة البئر السحيق بين أنياب اليأس القاتل والكآبة المضنية والسقم الكريه والكربة الشديدة، فهوعمل بطولي إبداعي خلاق .في هذه الهاوية ، تبدأ لحظة ولادة إنسان فائق مهمّش من رحم الليل البهيم وغياهب العدم(نيتشه)، يولد ابن الحرام بين أولاد الحلال ويحول العدم إلى عدمية نهيلستية خلاقة وفعل دخول إلى عالم الإبداع والعظمة.ابن الحرام هذا هو شاعر منحرف قاتل خداع، ساخر "لواطي"، لكنه مبدع وصادق وهذا شيئ لايصدق! فهو يفرغ الشعر من محتواه القاتل، من محتواه السلفي الصادق! إنه شاعر ما بعد الحداثة المختلف الذي يطرح القيم جانباً ويمزق برقع التقاليد ويرفع الغطاء عن الواقع الحقيقي، حيث هدفه تفتيت تكلسات الحضارة السائدة والطقوس النصوصية المتينة المسيطرة. الحقيقة في الرؤية الشعرية في الجوارات المتلألئة تبدو منزلقة نحو هوة العدم. لم يعد العقل مرتعاً للحقيقة، ولا الحقيقة قيمة أو فيماً لاهوتانية أو إنسانوية في زمن الليبرالية. لم يعد وجود الإنسان قيمة أو حقيقة مطلقة، بل أصبح قيمة تبادلية (هيدغر). أي أصبح جوهره يتعلق بالتبادلية الثنائية بين الأفراد. وصار العدم هو القيمة الكبيرة. لقد ولى زمن الملاء التقليدية زمن الوجود المطلق، زمن القيم الدينية والأخلاقية والفنية،انهارت حضارة الإملاء، والهوة الصحيحة فغرت فاها لقطيعة تنبه الإنسان إلى قدره ومستقبله.حضارة الملاء والإملاء والامتلاء تمثل الغطرسة والكبرياء والرياء والتسلط وعبودية النص والتقاليد.أصبح المثقفون يبحثون عن حضارة الفراغ بين أوراق الشعراء والأدباء والفلاسفة، بين ثنايا أفكار العدميين والصعاليك والمتشردين،يبحثون عن البوهيمية العدمية الخلاعية لخلع رداء القيم الرثة وارتداء ثوب الحقيقة البريئة. إن لفظ حضارة موروثة خير من ابتلاع حضارة جديدة تتراكم على الموروث وتسبب الصداع الثقافي والوجع الحضاري والألم الإنسانوي.أن نختصر المسافات بدل المراوحة مكاننا في مستنقع آسن في حضارة أفلت وغابت شمسها .فقد تعبت النفوس والعقول والأجساد من حضارة سالفة تتقهقر أمام الحضارة الغربية الظافرة وأمام جحافل الأنوار الآتية من صوب مغيب الشمس. تعبت من القيم المزيفة ومن أخلاق الفرسان المهترئة. لم يعد العصر ناقة أو فرساً أو بستاناً أو نبوة أو أطلالاً أو أمجاداً أو فتوحات.أو بثينة وليلي.العصر إرادة وقوة،,واختراع وإبداع وصنغة.أصابنا الملل من زهير والمتنبي والبحتري وشوقي وأبو ريشة شعراء الملاء والإملاء والامتلاء.نتعقب شعراء العدم والفراغ والتحرر والخلاعة والصعلكة والتشرد.هم أصدق خطاباً وأنبل فكراً وإحساساً.فهم يحاربون الوهم والغطرسة والتبجح والتملق والقيم المليئة بالصديد، هم حفارو القبور ومدمرو الأوثان والأنصاب والبهتان ورافعو لواء الشيطان الأعظم جائلاً في الكون مهدداً مدمراً خرافة الدجالين المحترفين خلال آلاف السنين، الذين يسرحون ويمرحون ويعقلون ويعُلقون ويغتالون الانفعالات ويكبتون العواطف الإنسانية باسم أنطولوجيا متعالية.لقد سئم الإنسان من رافعي ومحدثي حضارة بائدة، ومن شعراء صادقين في دجلهم وفي كذبهم وفي نظمهم، وقوالين باطنيين، ومن قراءة مهترئة.لقد أطلق ما بعد الحداثة برؤية جديدة، ,والأنا يسائل الأنا والوجود عن مصيره في الكون والزمان. أطلت العدمية من وراء المحتلف المنحرف الممزق على جواد شيطاني، فانفتح العقل على الثقوب السوداء حيث الجاذبية لا متناهية والقيم مطلقة مُلقاة داخلها. لم يعد الشاعر أو الإنسان يطلب السماء والقيم خارج حقله فالصحراء القاحلة الماحلة وحضارتها، والارض الملساء هي التراث وهي المنبع: تلغي التراث والعقل الصدئ. لا للقصور الوهمية بأعمدتها الرخامية لا لأقواس النصر الزائفة، لا لأشعار الصدق والمحبة.لا لأخلاق السادة لا لأخلاق الأمراء، للأناقة الأسلوبية واللغة المنعالية ، فأخلاق الصعاليك وأشعارهم هي الحضارة الصافية: جوهر الحضارة العربية وأساس انبعاثها.هذا المهمش المخفي المستتر الصعلوك وراء المتون المزيفة ووراء أقنعة البهرجة هو الحضارة العظيمة التي كسفها خطاب السلطة اللاهوتانية وخطاب الغطرسة والفخامة والبطولة الدموية السفاحة.يحدثنا التاريخ عن تدمير الأمم وتحويل الهياكل العظمية إلى الفراغ وسيطرة فراغ جديد مليئ بالتفاخر والتعظيم والهيبة والدعاء بالمساواة والإخاء والشريعة، ونهب الأمم وطمس حضارات متفتحة وتدمير ما بقي من لوغوس يوناني أو استخدامه جزئياً لتبرير ما رفع ولتوطين ما قدم. دمرت حضارات لها حق الحياة وحق مواصلة الطريق.فهدمت الأصالة الصعلوكية الإنسانية وأقيم مكانها دعاة الأممية والنفوس الخانعة والمساواة المزيفة.كان المهمش شديد الحساسية لما يجري حوله قبل ما بعد التاريخ الجديد. كان يرى الولاة والعمال ينهبون العباد لاسترضاء السلطان فتثور حميته ورجولته وإنسانيته فيترجل الشعر ويؤسس لخطاب أخلاقي غدمي جديد قائم على نبذ القيم المسيطرة وتدميرها.كان الصعلوك مرهف الحس لما يدور حوله يرى الظلم الاجتماعي والكبت الفكري والتسلط الاقتصادي فيتفجر أشعراً وأدباً لحضارة خلقية تتوارى وراء المزيف والملون والمتغطرس والملاء والإملاء.الصعلكة العربية قبل وبعد التاريخ هي هامش حضارتنا بل هي حضارتنا بل هي ما وراء ستار لوحتنا الزائفة. هي شعور الاضطهاد بالاضطهاد وشعور التفتت بالتفتت وشعور الإفقار بالإفقار . لم يكم يوماً مرائياً أو منافقاً مهادناً مسالماً او متملقاً أو صاحب ديوان أو قصر وكان إنساناً متخلقاً فارساً وعدمياً. يمثل اللاشيئ بجسده. كان شيئاً لكنه لا شيئ بالمطلق، لا يعلق عليه ولا يتعلق بالقيم. هو الجوهر في جميع العصور :"ومعنى ذلك أيضاً أن الناس توزعهم طبقتان محتلفتان:طبقة الأغنياء والموسرين الذين نعموا بالأموال والخيرات وطيب الثمرات من الخلفاء والأمراء والعمال والقبائل الموالية لهم، وطبقة الفقراء والمحتاجين ومن أراد الأمويون لهم أن يفتقروا ويبتئسوا ليذلوا ويستكينوا ويستسلموا، أولئك الذين يكدون ويشقون ويجمعون الأموال لهم،ويدفعونها إليهم، ويعيشون معيشة فيها الشظف والكفاف. وكان الفقراء والمحتاجون طائفتين :فمنهم من رضي بما كتب له من الحرمان والشقاء والبلاء، واكتفى بالعمل السلبي من الاستغاثة والاستنجاد بهم لرفع الظلم عنهم، وتطالعنا وثائق التظلم ورقاع الشكوى منذ بداية هذا العصر، فهذا عقبة بن هبيرة الأسدي يستصرخ معاوية كي يرجم قومه ويعدل بينهم ويرفع الجور عنهم يقول(الشعراء الصعاليك في العصر الاسلامي/د. حسين عطوان، دار الجبل ص39)
معاويَ إننا بشر فاسجح فلسنا بالجبال ولا الحديد
فهبنا أمةً هلكت ضياعاً يزيد أميرها وأبو اليزيد
أكلتم أرضنا فجردتموها فهل من قائم أو من حصيد
نعم للعدمية للاشيئ للإبداع للخلق والتحرير والانبهار والدهشة. انبهار الدهشة وحدث الانبهار وعبق الوجود هي التي تحرك الشاعر فيلغي الساقط والزائف والعفن ويمهد للحضارة العدمية. هذا ما نادى به أبيلارد ولمبارد والصاليك وأبو نواس والخيام وفولتير. الليل والعتمة والظلمة الحالكة أفضل من التراث الذي أصبح في عداد الأموات. هؤلاء يحفرون القبر للتراث ليواروا الكلمة والعبارة والنص المتهالك. أنطولوجيا العدم تدك الهيكل وتطرد المتعالي والنصوص الفجة والترانيم والأشعار الباهتة. في المتنبي شاعران شاعر مبدع وبارع قهر الحضارة وزيف الأمجاد السالفة ورفع النبوة. شاعر أبدع بأصالة كاملة رائعة وآخر هدم ودمر وكان صنواً للشيطان. المتنبي في "هجاء كافور": الخصي،الثعاليب،العبد،البيض،السود،المشفر،العصا،بخس،مناكيد،نواطير،الحر،الفلس....إنها مفردات النازية التي تحتقر الشعوب وتدوس على الكرامات . من هو الشاعر الذي يحتقر العبد ويرميه بأقذع الكلام؟ كيف ينسجم العبد مع مضمون قصيدة حاقدة. الاستهزاء بالشعوب، التعصب العرقي والقومي، كيف يحدث هذا الحقد في الشعر الموزون والشعر هو مصفاة الروح وروح الشعوب؟ الشاعر يحب ويستشهد ويتحرر. ثمة شاعر مليئ بالحقد الأسود والتعصب والأنانية والغطرسة، إنه خارج مملكة الشعر الصافي الأبدية. فالهجاء والمداح والقوال ليسوا شعراء بل مرتزقة لأسيادهم ولأنفسهم.....
إن مسيرة العدمية تمتلئ بالاضهاد وبالتعسف وباغتصاب الشعراء والفلاسفة واللاهوتيين . فأبيلارد هوجم من قبل سانت برنارد الذي اتهمه بأنه اعتبر الكاثوليكية إمتداداً للفلسفة الطبيعية وأنه يريد تدمير سر الثالوث عندما صرخ بأنه يمكن أن يفهم بواسطة العقل، وإنه عرف من قبل بعض الأفلاطونيين وأنه هدم العقيدة ذاتها عندما أدخل بها درجات من مثال أريوس، وبدقة عندما فهم الاشخاص الثلاثة كجهات ثلاث لجوهر وحيد، وليس أن كل واحد يمثل الجوهر الإلهي كله. في أيام الثورة الفرنسية قال كوتز بأنه إنسان ويجب تأويل الكتاب ودراسته ببراهين عقلية وكان ذلك جزء من نضاله السياسي في نادي اليعقوبيين"الجنسينيست" وفي الجمعية العمومية ومن محاربته للتعصب الديني والمناداة بالثقافة العقلية ، وبالمواطنة الإنسانية، وقد نصب نفسه عدواً للمسيح، وراح يهدم كل ما يقف في طريق العقل ويؤكد كل ما يعمق وحدة الجمهورية الفتية، فأعدم على المقصلة. أعدمه العدم. دافع عن العدم والعدمية والنهيلستية واخلاق المسيحية، ونادى بأخلاق الشعب، بأخلاق المدنية الوثنية. أعدم، وراح ضحية السياسة.إنه شهيد من شهداء العدمية سقط في أخبار التاريخ، وأعدمت سيرته ، وأصبح هباءً منثوراً. حقيقته جسد فان وما يقوله خطاب زائف يدير العقول ويدير السلطة والإرهاب وتعذيب النفوس في حلبات المصارعة مع سبارتاكوس، وإلغاء العدمية الصاعدة والإبداعية الخلاقة، ليسحق الإنسان المتفوق "هذا الانسان"(نيتشه)
يدمرون الإبداع بإحلال الأساطير. العدمية كشف وانكشاف لمواقع الإبداع في الخطاب والشعر والعلم. إنكار ورفض مطلق . إنها اللاشيئ. كانت البابوية على العكس تسحق الإنسان وتنهكه تماماً ثم تعرقه في حماة خترة، وفي خضم إحساسه بالحقارة الكالملة يلمع فجأة شعاع من الرحمة الإلهية فيطلق الإنسان وقد فاجأته الرحمة وأسكرته صيحة النشوة، ويعتقد لحظة أنه يملك السماء بين جبينه.إن الابتكارات النفسية المسيحية تسعى الى هذا الإفراط المرضي في الإحساس بالفساد الكبير الذي يتطلبه من القلب ومن العقل:تريد أن تفني، أن تنهك، أن تذل ,أن تسكر والشيئ الوحيد الذي لا تريده هوالإيقاع، ولذلك نجدها، في لب محاباتها همجية أسياوية نقيدة النبل الاغريقي "نيتشه-انسان مفرط في انسانيته ت محمد الناجي ص 80"
...يتبع