الاثنين، 2 أبريل 2012

                                                                                (2)


د.سامي أدهم

مهّد الفكر الفلسفي في القرن المنصرم للعدمية بإلغاء الأنا مع ميشيل فوكو، ليصبح بعدها النص ناصغاَ شفافاً يُقرأ بالآخر لا بالأنا ، ليصبح النصّ ملكاً للآخر وكل آخر، كي يؤلف النصّ بالآخر، ويمحي الأنا بألاعيبه وأمراضه النفسية ، كي يشعر القارئ بأنه ألفّ النص وأقام السردية.
إن هدم الأنا النصية كان أعظم إنتاج في النصف الأخير في القرن العشرين. أن يكتب الفيلسوف ولا يتعرف على نصّه الأّ من خلال صدى الانفجار المتشظي .فهو غريب عن إنتاجه وعن نصوصه، يقرأ بدهشة وجدّة دائمة. تُقرأ مقتطفات من بارميندس وأفلاطون الآن وتعاد قراءتها بنهم لا يشبع. كلّ افهوم وضغه افلاطون أو أرسطو له جدّة خالدة في هذا القرن. الفلسفة جدّة دائمة وحضورٌ لا متزمن.أن ينظم الشاعر ويعاود قراءة ما كتب كقارئ جديد يرى النور المنبعث من ألقِ النص دون أن يدمج أناه داخله، وهذا هو المستحيل الفلسفي المتوهج. كيف يستطيع فيلسوف أو شاعر أن ينبذ الأنا في نصه وهو ملكُهُ؟ أن تُهدم الأنا والذاكروية في سبيل الإبداع، وهذا هو المطلوب.أن تُلغى الأنا (موقف مستحيل)!


..ليس للفلسفة موضوع ولا أفهومات. الفلسفة سلب مطلق لما هو. نفي صارم لكل ما هو مُعطى وتدمير لما هو. لا تقتصر على موضوع معين، ,بل كل الموضوعات الفكرية هي مواضيعها،الفلسفة هي حدس الفيلسوف،حدس أولي.
..إن غياب الحدوس الأصيلة يجعل النص عاجزاً عن أن يرقى إلى مرتبة الفلسفة. وهو يجعله وضعياً وشيئاً .وهذا ما حدث في النصوص العربية في عصرالنهضة!


ابتدأ القرن العشرون بمقولة الوجود والكينونة مع فلاسفة الوجود. وأصبحت هذه المقولة هي الأساس في الفكر والخطاب الأدبي والفلسفي والسياسي. وقد استثمرت من قبل جماعات سياسية، كالنازية والفاشية والشيوعية، وكونت ركيزة الخطاب السياسي والأيدولوجي. استعملت هذه المقولة من قبل الدعاية النازية والفاشية وأصبحت صَنواً للقومية المتعصبة وللدعايات العرقية. لكن تتابع الاحداث إبان منتصف القرن، أسقط النازية والفاشية، وحطم بذلك مقولة الوجود لمصلحة خطاب العدمية واللاوجود واللاقومية، مُنهياً الثنائية الديالكتيكية الرَّهيبة،ثنائية الوجود واللاوجود. وفي أواخر القرن سقطت الشيوعية وسقط خطابها عندما تحولت إلى فاشية مخابراتية تعتمد مقولة الوجود، مُحورة الفكر الهيجلي اليساري لمصلحة إرهابيي السلطة السوفيتية ، ومُنهية الديالكتيك العقيم القائم على أزدواجيات وثنائيات لغوية فارغة. فأصبح الحزب هو الوجود والكينونة،وهوالمتسلط، نافياً الحرية والديمقراطية. وفي خلال النصف الثاني سقطت مقولة الوجود تماماً، وخرجت من الخطاب الفكري والفلسفي والسياسي، وأصبحت السردية تلهث وراء اللاوجود ليتحول الإنسان التقليدي ، إنسان الحداثة،إلى لا إنسان ما بعد الحداثة، بمقولات جديدة انبثقت من السرديات الجديدة، التي تكون العلم والفن والثقافة. كان الفضل للعلم الحديث والمنطق والتجارب الشعرية الرائدة في إلغاء الثنائية في الخطاب منذ الانبلاج اليوناني حتى الحرب العالمية الثانية.


..الثنائية التي أنهكت الخطاب الإنسانوي الفلسفي وجعلت العمل الفلسفي محصوراً ضمن الزوج الثنائي لايستطيع أن ينطلق في رحاب الفكر دون أن يكون مزوداً بمروحتين تكونان الثنائية الفكرية.الثنائية أي ثنائية الوجود تظهر في النص الفلسفي وتحكمه من أوله لآخره، وهي تحاكمه وتمتص نواته وجوهره. فالوجود والعدم كزوج متلازمتان كثنائية ضاغطة في النص،بحيث لا يمكنه تفكيك الزوج إلى مكوناته إلا بعملية إلغاء النص ذاته. فالنص يختفي من الفكر، وعندما ينبسطُ طولاً،بحيث تصبح قراءة النص غريبة عن ثقافة القرار التقليدية.


إن الخطاب الثنائوي المنفكر في كل لحظاته يجمد الفكر ويجعله يضيع في الإزدواجيات ويقع في مصيدة كبيرة أو نسيج العنكبوت بحيث يصبح من الصعب الخروج منه دون تفكيك وهدم وإذابة للنص ذاته (انتحار النص). الالتباسية في المعنى،والازدواجية الثنائية هما اللتان تسيطران على مسار الفكر، حيث يضغط الفكر بين قطبين متضادين، حيث يسهل المرور من الواحد للآخر بحركة فكرية التباسية. إن الثنائية الازدواجية وطريقة معالجتها أربكت الفلسفة والفكر. فقد اعتمد الفكر في التنقل على نوع من الالتباسية (أمفولوجية) في المعاني. إذ اصبح الدخول أو تحديد قطب في الثنائية وكثرة التحديدات توصل المحدد إلى القطب الآخر،دون استنتاج أو منهاج منطقي.


فالالتباسية التي صنعت الثنائية كانت قوية، بحيث إنها كونت مذاهب ضخمة (الماركسية مثلاً) راحت تطوق المجتمع والأفراد، ملغية قوة الفكر والمنطق،وأصبح الجدل العقيم مذهباً ثنائياً، يستعمل في العلوم والفلسفات، ويوصل الفكر إلى نوع من اللغو عديم الفائدة. إن فَك الثنائيات أو هدمها هو مطلب رئيسي في الفكر وفي ما بعد الحداثة، في الفكر المتشظي الكاوسيّ.





...يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق