الانتحار في دفاتر إميل سيوران
Cahiers: 1957-1972
الجزء الأول1
" الانتحار" من أكثر الكلمات ذكرًا وتكرارًا في دفاتر سيوران، يذكُرها معبرًا بها عن هواجسه حينًا ومعلقًا بها على انتحار أصدقاءَ له أو أقارب(ابن أخيه مثلا) حينًا آخر، أو حتى على انتحار أناسٍ سمعَ عنهم. الشذرات الواردة مرتبة من الأقدم إلى الأحدث لتتبَّعَ تناول سيوران لموضوع الانتحار عبرَ مراحل زمنية مختلفة.
انتحارُ فتاةٍ أعرفها: فجوةُ هائلةٌ تنفتحُ في ماضيَّ
و تخرجُ منها ألفُ ذكرى فاتنةٍ و مفجعة. كانتْ تحبُّ السقوط، و مع ذلك قتلتْ نفسها
لتهربَ منه.
*
تراودني فكرةُ الإنتحارِ منذُ أيام، أنا أفكرُ
في الانتحارِ دائمًا، لكنْ أنْ أفكرَ فيهِ شيء، و أن أخضعَ لهُ شيءٌ آخرَ تمامًا.
لقد استحوذت عليَّ هواجسُ سوداء. لن أستطيعَ الاستمرارَ طويلاً هكذا، لقد استنفذتُ
قدرتي على مواساتي.
*
توجدُ لذةٌ في مقاومةِ غوايةِ الانتحار.
*
لقد تغلبتُ أخيرًا على شهيةِ – و ليسَ فكرةَ
الانتحار. لقد روضتها بفضلِ خيباتي.
*
فكرةُ الانتحارِ هي أكثرُ الأفكارِ إنعاشًا.
*
هديةُ عيدِ ميلاديّ:تعاودني فكرةُ الانتحارِ القديمةُ مِنْ جديد، و
تسيطرُ عليَّ خصوصًا اليوم. فلأقاومها و أبقى مستمرًا.
*
كارولين فون غونديرود، لا أحدَ فكرَ فيها
مثلي، لقد أشبعني انتحارها.
(كارولين هي شاعرة ألمانية انتحرت بعمر
السادسة و العشرين)(1)
*
ما يجعلُ التدميرَ لاأخلاقيًا لهذهِ الدرجةِ
هو سهولته، ما دونَ الانتحار كلُّ تدميرٍ هو بسيط.
*
منذُ أيامٍ أقرأُ قصصَ هاينرش فون كلايست؛ انتحارهُ
هو ما يمنحُ تلكَ القصصَ بعدًا آخرَ لم تكنْ لتصلهُ بأيِّ طريقةٍ أخرى. لأنه ُمنَ
المستحيلِ أن تقرأَ سطرًا واحدًا لكلايست دونَ أن تفكرَ في أنهُ قد قتلَ
نفسه. (انتحارهُ) يكملُ حياته، كما لو أنه
انتحرَ منذُ البداية.
-كلمةُ انتحار التي وردت بينَ قوسين هي في
النص الأصليّ بالألمانية، لغة كلايست الأم.- (2)
*
بعدَ الظهيرة و بعدَ أن قدتُ س. إلى المحطة،
انتابتني نوبةُ اكتئابٍ حادةٍ تقودُ للانتحار. فراغ، فراغ، فراغ. لا شيءَ داخليّ و
لا شيءَ حولي. لحظاتٌ كهذه تقودكَ مباشرةً لمستشفياتِ المجانين. أنا مجنونٌ فعلاً،
بالمعنى الحرفيّ للكلمة. لم أعدْ أنا، لقد مررتُ جانبَ كنيسةٍ دونَ حتى أن أفكرَ
في الدخول. لكن ما فائدةُ إقحامِ اللهِ في ما لا يمكنُ حله؟ و مع ذلك يجبُ أن أجدَ
طريقةً للصلاة.
لا أدري بأيِّ معجزةٍ أنا مستمرٌ لحدِ الآن.
لا أدري بأيِّ معجزةٍ أنا مستمرٌ لحدِ الآن.
*
ما أنْ نرفضَ التعايشَ مع فكرةِ اللاجدوى حتى
نسقطَ في غوايةِ الانتحار.
*
في بدايةِ العشرينات كنتُ قابَ قوسينِ أو
أدنى منَ الانتحار؛ ثم تغيرَ الأمر؛ ليس لأنني في السنواتِ الثلاتين الأخيرة توقفتُ
عن تصورها أو التفكيرِ فيها جديًا أحيانًا؛ لكن أخيرًا كان هنالكَ شيءٌ غيرُ معروفٍ
يؤكدُ لي أنني غيرُ قادرٍعلى فعلها؛ هذا الشيء، هذا الصوت، أنا خائفٌ أن يتوقفَ
الآن؛ لقد صرتُ أسمعهُ بوتيرةٍ أقل منذُ مدة.
*
عليَّ أن أكتبَ مقالاً عنْ تولستوي في الفترةِ
التي كانتْ فكرُة الانتحارِ لا تغادره، أنا أيضًا أمرُ في نفسِ العذاب. قمةُ البؤس:
أنا أخرجُ من غرفتي لأنني إن بقيتُ وحيدًا لن أكونَ متأكدًا منْ أنني سأستطيع
التغلبَ على بعضِ القراراتِ المفاجئة.
كيف تمكنتُ من الوصولَ إلى هذهِ المرحلة؟ بهذا السؤال استمرتْ حياتي إلى الآن.
أكتبُ نصًا عنِ الخوفِ منَ الموتِ لدى تولستوي؛ و كالعادة أفكرُ في نفسي أكثرَ منَ الكاتبِ الذي عليَّ الحديثُ عنه.
كيف تمكنتُ من الوصولَ إلى هذهِ المرحلة؟ بهذا السؤال استمرتْ حياتي إلى الآن.
أكتبُ نصًا عنِ الخوفِ منَ الموتِ لدى تولستوي؛ و كالعادة أفكرُ في نفسي أكثرَ منَ الكاتبِ الذي عليَّ الحديثُ عنه.
*
أصبتُ بنزلةِ بردٍ في إسبانيا، أنا والمرضُ لا نكادُ نفترقُ تقريبًا. فاجأتني
نوبةُ غضبٍ شديدٍ حينَ ارتجفتُ و توجهتُ صوبَ السريرِ بدلَ أن أتوجهَ للاستحمام.
لم أكن يومًا قريبًا من الانتحار بسببِ الخوف ِمنْ آلاميّ أكثرَ منَ الآن. لو
أمكنني أن أسكنَ جسدًا آخر. لم أعدْ أطيقُ جسديّ و مع ذلك عليَّ احتماله. أنا أفرضُ
على نفسيّ احتمالهُ خوفًا و جبنًا. لكن يديّ قد ترفعُ يومًا ضدَّ جسدي، و تخلصنيّ
منهُ نهائيًا.
*
إلى ذلك الذي يعاتبُ نفسهُ دونَ توقفٍ
لأعتقادهِ أنه مسؤولٌ عن انتحارِ زوجتهِ، شرحتُ أن الانتحارَ كان داخلها و ما كان
ينتظرُ سوى ذريعةٍ لينقضَ عليها، و أن مسؤوليتهُ كانتْ في إعطائهِ هذهِ الذريعة.
قلتُ لهُ بالحرف: " كان الانتحارُ داخلها، كما كان الشعورُ بالذنبِ داخلكَ
دائمًا".
*
الطبيبُ الذي توجهتُ إليهِ منْ أجلِ أمعائيّ
سألني إذا ما كانتْ لديَّ أفكارٌ انتحارية. أجبتهُ قائلا: "طوالَ حياتي لم
تكن لي أفكارٌ غيرها." نظرَ إليَّ نظرةً متفائلة، أقصدُ: ساذَجة.
*
يَعمُّ جوُ الصيفِ ليكسومبورغ، العديدُ منَ
الناسِ في الشوارع. فكرة ُالانتحارِ تعود. لا أدري حقًا لماذا أستمرُ بالتجولِ وسطَ
هذا القطيع. و منْ جديدٍ تغويني الصحراء.
*
كلايست و رودولف (بطل مايرلينغ) بحثا و وجدا
هما الاثنان نساءً لإنهاء حياتهما معًا. كيف يمكنُ أن تكونَ طلباتُ الإنتحارِ
المشتركِ هذه؟ ربما هو خوفًا من أن يموتا وحيدين، أو ربما، و هذا هو المرجَّح،
أنهما بحاجةٍ للانتهاءِ في ذلك الإشباعِ الذي لا بدَ أنهُ يسبقُ الموتَ المشترك.
*
على حدِ علمي لم يركزوا كثيرًا على أهميةِ
الانتحارِ لدى دوستويفسكي. الانتحارُ أكثرُ ما يدهشني لديه، بعدَ روحِ الدعابةِ
طبعًا.
*
مجلةٌ ما تدعوني لأشتغلَ معهم على عددٍ حولَ
الانتحار، كتبتُ لهم معبرًا عنْ رفضي التعاونَ معهم و اقتبسوا من جوابي جملةً كانتْ
في تصديرةِ العددِ كما لو أنني كتبتها متعمدًا، هذه الجملة هي:
"رافقتني فكرةُ الانتحارِ طيلةَ حياتي مهما كانتْ ظروفي صعبةً أو حتى تافهة، بعدَ كلِّ شيءٍ يمكن اعتبارها هاجسًا سلميًا، حيثُ إنها مكنتني منْ مقاومةِ الرغبةِ في التدميرِ الذاتي"
"رافقتني فكرةُ الانتحارِ طيلةَ حياتي مهما كانتْ ظروفي صعبةً أو حتى تافهة، بعدَ كلِّ شيءٍ يمكن اعتبارها هاجسًا سلميًا، حيثُ إنها مكنتني منْ مقاومةِ الرغبةِ في التدميرِ الذاتي"
*
هنالك إشاعةٌ منتشرةٌ أنَّ باول سيلان انتحرَ
في مستشفى باريسي، هذا الخبرُ غيرُ المؤكدِ يجعلني غيرَ قادرٍ على التعليق. منذُ
شهورٍ و أنا أيضًا أفكرُ في هذه "المعضلة". لكي لا أضطرُ لحلها أسحبُ
منها كلَّ معنى.
*
*
ستكونُ عطلتي مخصصةً تمامًا لمقالي حولَ الانتحار،
لقد تحولَ هاجسي إلى واجبٍ عليَّ القيامُ به، على الأقل لن يبقى لي الوقتُ لأشعرَ
بالضجر.
*
كلُّ أفكاري تطورتْ على هوامشِ الانتحار، و
لم تستطعْ يومًا أن تستقرَ في "الحياة".
*
في الخوفِ منَ الانتحار يتصارعُ الارتباطُ
بالحياةِ و عارُ أنكَ حيّ. لكنَ العارَ هو الذي ينتصر.
*
أنهيتُ مقالي حولَ الانتحار، لا يمكنُ أبدًا
تقييمهُ فعليًا. ينتابني الشكُ تجاههُ و لا أستطيعُ نشره.
*
في مقالي حولَ الانتحار نسيتُ تبيانَ أن الانتحارَ
بالنسبةِ لي هو فكرةٌ و ليسَ دافعًا، هذا يوضحُ التناقضاتِ و الجبنِ الذي يثيره ُهذا
الموضوع داخلي.
*
مع أخذِ كلِّ شيءٍ بعينِ الاعتبار، الانتحارُ
هو أشرفُ الأفعالِ التي يمكنُ للمرءِ القيامُ بها.
*
(1) (2) ملاحظة من المترجم
من أجل الوصول للجزء الثاني إضغط هنا.
ترجمة وإعداد: Achraf Nihilista
كسي
ردحذفبتول وعبدالله نسلم عليكم
ردحذف