عن الانتحار... آرتور شوبنهاور
بقدر ما أعرف، لا أحد سوى أنصار
التوحيد وهذا يعني :-الأديان اليهودية-، ينظر إلى الانتحار على أنه
جريمة. وهذا ما يثير أكبر الاندهاش، نظراً لأن لا العهد القديم ولا الجديد يشتملان على أي تحريم أو استهجان له؛ لذلك فإن المعلمين المتدينين مجبرون على أن يضعوا اداناتهم بناءً على أُسس فلسفية من اختراعهم. الكتاب الرديئون للغاية من هذا الطراز يجاهدون لتعويض ضعف حججهم
بإجماعات حازمة، والتي يُعَبِرونَ من خلالها عن اشمزازهم من التمرن على حجج جديدة.
باختصار إنهم يواجهونه بطريقة خطابية. يقولون لنا إن الانتحار أعظم صور الجُبن، إن المجنون وحده يذنب باقترافه، والبواخات الأخرى من نفس النمط هذا ،إذا لم يذكروا تلك الملاحظة الهرائية -إن
الإنتحار مخالف للحس السليم-، حيث إنه من أشد الواضح أن كل شيء في العالم يهون ويصبح
هامشياً، باستثناء حياة المره وشخصه.
الانتحار، وكما سبق أن ذكرت يعتبر جريمة ،وجريمة بإجماع الرعاع المنقادين بالتعصب الأعمى والمستشري في بريطانيا، كما أنه يتبع بمراسم دفن مُخزية ومصادرة جميع ممتلكات المرء، ولهذا السبب في حالة الإنتحار؛ فإن قرار هيئة المحلفين جاهز تقريباً بحكم بالجنون. والآن لندع ضمير القارئ يقرر إذا ما كان الانتحار فعلا إجراميا أم لا. فكر في الانطباع الذي سينشأ بداخلك عند سماعك لخبر أن شخصاً تعرفه قد ارتكب جرماً، لنقل، قتلا أو سرقة، أو عملا وحشيا او نصبا،ثم قارنه بمشاعرك عند سماعك لخبر أن أحدهم أنهى حياته بمحض إرادته. بينما سينشأ في الحالة الأولى إحساس مفعم بالسخط والاستياء الشديد، وربما المجاهرة بمطالبتك بالعقاب أو الانتقام، في الحالة الثانية سيحركك الحزن والتعاطف، وستتعارك مع مشاعرك للاعتراف بإعجابك بشجاعته بدلاً من الاستنكار الأخلاقي، والذي ستتبعه بفعل شرير.
من منا ليس لديه معارف،أصدقاء،علاقات، كم منهم غادر العالم بإرادته الحرة؟ وهل هؤلاء من سنخاف منهم كأنهم مجرمون؟ قطعاً لا ! أنا أميل إلى رأي يقول: إن رجال الدين يجب تحديهم لنعرف بأي حق يتوجب عليهم أن يصعدوا إلى منبر الوعظ، وإخراج أقلامهم ليوقعوا بالجريمة على فعل قام به العديد من الرجال الذين نحمل لهم العواطف ونكن لهم الاحترام، وليرفضوا إعطائهم دفناً مشرفا لأنهم هجروا سلتطهم الكونية. ليس لديهم حتى سلطة إنجيلية يتبجحون بها ويقدموها كتبرير لإدانتهم للانتحار، ولا حتى أي حجج فلسفية مُفحمة. ينبغي أن يُفهم أننا راغبون في هذا الجدال الفلسفي،هو لن يكون مجرد كليشهات وسُباب. وإذا كان قانون الجنايات يحظر الانتحار، فهذا الحوار ليس متاحاً للكنسية، بالإضافة إلى أن المنع مجرد سخافة؛ بأية عقوبة سترهب شخصاً لا يهاب الموت نفسه؟ إذا كان القانون يعاقب على اقتراف الانتحار، فعقابه كالرغبة بمهارة تجعل من المحاولة فشلا ذريعا.
بالإضافة إلى ما تقدم، فإن القدماء كانوا بعيدين جداً عن إدراج الموضوع في سياق كهذا، يقول بليني: "ليست الحياة شيئاً مرغوبا به إلى الحد الذي تكون فيه مطولة بأي ثمن. كائناً من كنت، فإنك ستموت بكل تأكيد، حتى لو كانت حياتك طافحة بالمقت والجريمة. سيد العلاجات بالنسبة لعقل مَهمُوم هو الشعور بأن من بين جميع النعم التي تغدقها الطبيعة على الإنسان، ليس هناك أعظم من موت مُلائم، وأحسن ما فيه أنه بإمكان أي واحد الانتفاع منه". وفي مكان أخر يعلن الكاتب نفسه:- "ليست كل الأمور ممكنة حتى مع الله نفسه، فهو لن يقدر على تحديد موعد موته إذا شاء أن يموت. ولحد الآن من بين جميع ماسي حياتنا الأرضية فالموت الاختياري هو أفضل هدية منحها للإنسان". لا بل في ماسيليا على جزيرة سيوس، كان الرجل الذي يقدم أسباباً مُقنعة للتخلي عن حياته، يسلم شراب الشوكران من يد القاضي، وكان الأمر يتم في العلن. في الأزمان القديمة ، كم من الأبطال والرجال الحكماء ماتوا موتاً طوعياً. أرسطو، نعم أرسطو،أعلن أن الانتحار إهانة للدولة، وليس للشخص نفسه. و في شرح ستيبايوس للفلسفة المشائية هناك الملاحظة التالية:"على الرجل الصالح عليه أن يهجر الحياة عندما تتعاظم مصائبه، والرجل الفاسد حين تزدهر حياته_وبالمثل سيتزوج وينجب أولاداً ويشارك في شؤون الدولة، وعامة بحكم الممارسة سيتمرن على الفضيلة ويستمر في العيش.وبعدها ,مرة أخرى، إذا احتاج أن تجبره الضرورة، فلسوف يغادر مكانه إلى ملاذه فيه القبر".و نجد الرواقين يُشيدون بالانتحار كما لو أنه عمل نبيل وبطولي ، كما تصوره آلاف المقاطع في أعمال سنيكا أكثر من أي وأحد أخر، حيث يعبر عن استحسانه الشديد الشديد له. وكما هو معروف جيدا، فإن الهندوس ينظرون إلى الانتحار كفعل ديني(1)، وبشكل خاص التضحية بالنفس لدى الأرامل. وكذلك أيضاً عندما يكون بإلقاء النفس تحت عربة الإله-الطاغوت-أو أن تأكلك التماسيح في نهر الغانج، أو الإغراق في الجرار المقدسة في المعابد..وهلم جرة. الشيء ذاته يظهر على المسرح-مرآة الحياة-. علي سبيل المثال في يوم اليتيم الصيني، -وهو ويوم ألعاب احتفال صينية -، كان ينتهي اليوم تقريباً بانتحار مُعظم نُبلاء الصين، وبدون أدنى تلميح أو انطباع في أي مكان أن الذي اقترفوه كان جريمة. في مسرحنا الأمر مُشابه إلى حد بعيد-بالميرا-علي سبيل المثال في محمد، أو مورتيمر في ماريا ستيورات، عطيل، الكونتيسة تيرزكي. هل مُناجاة هاملت تأملات مُجرم؟ إنه يعلن ببساطة أنه لو كان لدينا أية موثوقية بأننا سنباد بدون رجعة عن طريق الانتحار؛ فسيكون الموت هو المفضل بلا منازع لعالم بهذا البؤس. لكن هنا تكمن –الحَكة-!
ما عند رجال الأديان
التوحيدية، وهذا يعني "الأديان اليهودية" من المواقف المُسبقة ضد الانتحار ، و هؤلاء الفلاسفة الذين يكيفون أنفسهم كملحقين بها، مغالطات هشة من السهل
دحضها. ونظراً لضحد هيوم لأشد المتعصبين منهم في مقالته عن الانتحار(2)-مقال في
الانتحار-، فإن الاستئناف لم يبدأ إلا عند موته، حيث إنه قمع على الفور نتيجة التعصب
الأعمى المخزي، والطغيان الكنسي المشين الذي ساد في إنجلترا؛ولذلك بيع من مقالته بضع نسخ تحت غطاء السرية وبأسعار باهظة.
تلك المقالة وغيرها لرجل عظيم جاءنا من بازل، ولنكن شاكرين لإعادة الطبع. إنها
لوصمة عار كبيرة للأُمة الإنجليزية أن تلك المقالة الفلسفية البريئة، والصادرة عن واحد من ألمع الكتاب والمفكرين
فيها،ذلك الذي واجه الحجج السائدة ضد
الانتحار بنور العقل البارد، تكون مُجبراً على تهريبها و الهمس بشأنها في تلك
البلد، كما لو أنها عمل مُبتذل، حتى وجدت أخيراً ملجأً لها في القارة. في الوقت نفسه
فإنها تظهر مقدار الضمير لدى الكنيسة في هكذا مسائل.
في عملي الرئيس(3) قمت
بتوضيح أن الحجة الوحيدة القائمة مقابل
الانتحار هي ضمن معدل الوفيات. وهي كالاتي:-إن الإنتحار يُحبط بلوغ الهدف الأخلاقي الأعلى بحقيقة أنه، من أجل تحرر حقيقي من عالم
التعاسة هذا؛ فإنه ببساطة يجب استبداله
بواحد آخر بائن-ظاهر-. لكن من غلطة إلى جريمة فالأمربعيد كل البُعد، كما أنها لا تفرق عن جريمة، أن رجال الدين النصراني يتمنون لنا
أن نُبجل الانتحار.
النواة الأعمق في
المسيحية هي حقيقة المُعاناة (الصليب)، والتي هي حقيقة وموضوع الحياة. وبالتالي
المسيحية تُدين الانتحار باعتباره احباطا لتلك الغاية، بينما يقال أن العالم القديم يقف عند
مستوى أدنى من المشهد، راسخ في الاستحسان، لا وبل في -الشرف-. لكن إذا كان ذلك يشكل حجة
وجيهة ضد الإنتحار، فهو يورط كل ادعاءات الزُهد، وهذا يعني أنه لا يصح إلا من الوقوف على نقطة أخلاقية أعلى
بكثير مما تبناه الفلاسفة الأخلاقيون في
أوروبا . إذا تخلينا عن نقطة الوقوف العالية جدا هذه، فلا تبق أي حجة يمكن الدفاع
عنها في جانب الأخلاقية لادانة الانتحار. الطاقة والحماسة الخارقة للعادة لدى
الأديان التوحيدية في مهاجمة الانتحار ليست مدعومة بأي مقاطع من الإنجيل ولا بأي
من الاعتبارات ذات الوزن، بحيث يبدو
كما لو أنه يجب أن يكون لديهم أسباب سِرية لمكابرتهم. ربما لا يكون هذا-إن التخلي الطوعي عن الحياة هو إطراء سيء للذي يقول: كل الأشياء جيدة جداً؟ إذا الأمر كذلك فهو يفترض أن يقدم نموذجا للتفاؤل الشديد لهذه الأديان، تشجب الانتحار لتتفادى أن تشجب به.
على العموم يمكن أن
يكون الأمر كالتالي: حالما تصل أهوال الحياة إلى النقطة التي تتفوق بها على الخوف
من الموت؛ يضع الإنسان حداً لحياته. لكن الخوف من الموت يوفر مقاومة هائلة، يجعلهم يقفون كغفير على البوابة المؤدية
للخروج من هذا العالم. بالطبع ليس هنالك إنسان على قيد الحياة لم يتصور نهايته، وحتى وإذا كانت نهاية ذات طابع سلبي بحت، كتوقف مُفاجئ للوجود، هناك شيء إيجابي في هذا وهو تحسس خراب الجسد، حيث الإنسان ينكمش عند
تخيل ذلك؛ لأن جسده هو تجلي إرادة الحياة.
مهما يكن الصراع مع
الغفير كأنه قاعدة عامة، فإنها ليست صعبة عندما ينظر لها من مسافة بعيدة، وذلك في الأساس عاقبة
العداء بين عِلل الجسم وعلل العقل. إذا كنا في ألم جسدي كبير ، أو دام الألم فترة
طويلة؛ نغدو غير مبالين بالمتاعب الأُخرى،، جميعنا نفكر بالتحسن فحسب. وبالطريقة ذاتها المُعاناة العقلية
الكبيرة تجعل منا غير مدركين للألم الجسدي-مزدرين له، كلا، إذا كان سيتفوق على الآخر فهو يشتت أفكارنا،إذ نرحب به كمعطل للمُعاناة العقلية. هذا هو الشعور الذي يجعل الانتحار سهلا. بالنسبة للألم الجسدي الذي يُرافق ويبقى، فإنه يفقد العينين أي ألق ودلالة للشخص الذي غُذب بشكل مُفرط عقلياً، وهذا دليل
مُعتبر في حالات هؤلاء الذين اقتيدوا للانتحار بواسطة حالات مرضية بحتة والإفراط
في النكتة السوداء. ليس هناك حاجة لتبذل معهم جهداً مميزاً ليتجاوزا مشاعرهم، ولا أن يطلب منهم أن يسيروا
بإنتظام ليصعدوا درجة، حيث بمجرد أن يتركهم الممرض أو الحارس بضعة
دقائق مع أنفسهم؛ فإنهم بسرعة يرسلون حياتهم إلى نهاياتها.
عندما يحدث ونحلم
حلماً مروعاً وشنيعاً و نصل إلى لحظة الرعب الأعظم ؛ إنها توقظنا، وبهذه الطريقة تطرد كل الأشكال الشنيعة
التي ولدناها في الليل. الحياة حُلم : وعندما تُجبرنا لحظة الرعب الأعظم على هدمه،
يحدث الامر ذاته.
يمكن للانتحار أيضاً
أن يُعتبرتجربة—سؤالاً يضعه الإنسان في وجه الطبيعة، محاولاً أن يجبرها على الإجابة.
السؤال هو هذا : ما التغير الذي سيجلبه الموت على وجود الإنسان وعلى تأمله في
طبيعة الأشياء؟. إنها تجربة طائشة نقوم بها، تنطوي على تدمير الوعي الذاتي الذي يضع
سؤالاً وينتظر الجواب.
1-يذكر أن كهنة طبقة البراهمة الهندوس كانوا يسمحون للبراهمني بالانتحار، لكن بشرط أن ينتحر بوعي كامل، ليكون شاهدا على خروج الروح من الجسد.
2-المقصود مقالة ديفيد هيوم،-مقال في الانتحار وخلود الروح-1799م-.
3-العالم إرادة وتمثلا.
ترجمة/شيفا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق