الجمعة، 5 أغسطس 2016

ما التشاؤم؟ الفلسفة الكامنة في صميم مسلسل True Detective





ما التشاؤم؟ الفلسفة الكامنة في صميم مسلسل True Detective


بقلم بروفيسور ديفيد كارترايت- David Cartwright







أحدُ أوائلِ اللقاءاتِ الحميمةِ التي تجمعنا بشخصيةِ راستن كولRustin Cohle ‘التي يؤديها ماثيو ماكونهي Matthe McConaughey  هو في حوارٍ له مع شريكه الجديدِ مارتن هارت Martin Hart - حولَ معتقداته الوجوديّة. حينَ يلحُ بسؤاله عنِ التزامه بالمسيحيّة، ينفي ’رَسْت‘ أيَّ صلةٍ بها ( تتجاوز غرضه بالتأمل)، ويؤكدُ أنّه " ما يعرَفُ فلسفيًا ”بالمتشائم“. منَ المفهومِ أنَّ كثيرًا منَ النَّاس، بما فيهم مارتن نفسُه، وجدوا أنفسهم مدفوعينَ ليسألوا عندَ سماعهم هذا المصطلحَ أولَّ مرَّةٍ: 'ما معنى هذا؟' جاءَ الجوابُ تهربيًّا في البداية: ” هذا يعني أنّني لستُ رجلَ حفلات “ ولكنْ بعدَ قليلٍ منَ الضَّغطِ الصَّامتِ منْ مارتن، يبوحُ رَسْت برؤيته للعالَم:




" أعتقدُ بأنَّ الوعيَ الإنسانيَّ زلَّةٌ مأساويّةٌ في تطوُّرِ النَّوعِ البشريّ، لقد تجاوزَ وعينا بالنَّفسِ الحدَّ اللازِم. أوجدتِ الطبيعةُ جانبًا منها غريبًا عليها، نحنُ كائناتٌ لا ينبغي أنْ توجدَ وفقًا للقانونِ الطبيعيّ. نحنُ أشياءُ تكدَحُ مدفوعةً بوهمِ امتلاكِ ذات، بَرْمَجَتْنَا مشاعرنا وخبراتنا الحسيَّةُ بتأكيدٍ تامٍ على أنَّ لكلِّ منا أهميته، بينما في الحقيقةِ لا أهميَّةَ لأحد. أعتقدُ أنَّ رفضَ برمجتنا هو أنبلُ ما يمكنُ لجنسنا فعله: أنْ نكفَّ عنِ التّناسُل ونمضيَ يدًا بيدٍ صوبَ الانقراض. صوبَ ظُلمةٍ أخيرة، أخوةً وأخوات، منسحبينَ مِنْ صفقةٍ فاشلة" راستن كول، الحلقة الأولى: الظلامُ الطويل المشرق.




على الرغمِ منَ حقيقةِ أنَّ النُّسخةَ المتلفزةَ لا تكشِفُ صراحةً عنْ مصدرِ هذه الأفكار، إلاّ أنّه منَ المُشَوقِ معرفةُ أنَّه في سيناريو أسبق، يشيرُ رَستْ بالفعلِ إلى الفيلسوفِ الألمانيّ آرثر شوبنهاور باعتباره واحدًا منْ بينِ المفكرينَ الذين يُفترضُ أنّه كانَ قد قرأ أعمالهم. وبالتالي، على ما يبدو أنَّ لمعجبي True Detective في شخص آرثر شوبنهاور، مدخلٌ بديلٌ ما لعقلِ راستن؛ وبالتالي معتقداته وحياته. لكنْ مَنْ كانَ آرثر شوبنهاور وبمَ كانَ يعتقد؟ وإلى أيِّ مدًى يمكنُ أنْ تساعدَ آراؤه في فهمٍ أفضلَ لرؤيةِ المحقِقِ راستن كول العدميّةِ للحياة؟


غالبًا ما أُشيرَ إلى الفيلسوفِ الألمانيّ آرثر شوبنهاور(1788-1860) على أنّه المتشائمُ الأعظمُ في التراثِ الفلسفيّ الغربيّ. على أيّةِ حال، ممّا يثيرُ الفضولَ أنّه لم يُشِرْ قَطُ إلى فلسفته على أنّها متشائمةٌ في أيِّ عملٍ أعدَّهُ للنَّشر. في الواقع، استخدمَ مفهومي ”التفاؤل“ و”التشاؤم“ لتصنيفِ الأديان، التي فَضَّلَ منْ بينها البوذيّةَ والهندوسيّةَ اللّتين صنَّفهما على أنّهما ديانتان ”متشائمتان“. ولكنْ إذا كانَ المتشائمُ شخصًا يؤكدُ على :


(1) أنّ الوجودَ غلطَة
(2) وأنّ ليسَ ثمة معنًى أوغايةً للوجودِ الإنسانيّ
(3) وأنَّ أفضلَ شيءٍ لبني الإنسانِ هو ألاّ يوجدوا
(4) وأنَّ الأفضلَ التالي هو تحقيقُ حالةِ كينونةٍ يستحيلُ فيها العالَمُ عدمًا
(5) وأنَّ الحياةَ قائمةٌ على المعاناةِ والمعاناةُ شرّ
(6) وأنَّ هذا العالَمَ هو أسوأُ العوالِمِ المُمكنة
فلا أحدَ إذنْ أحقُ باللّقبِ منْ شوبنهاور.


كوَّنَ شوبنهاور رؤيته المظلمةَ والفاتِنةَ للعالَمِ في كتابه الرئيس العالَم إرادةً وتمثلاً، الّذي ظهرَ للمرَّةِ الأولى في ديسمبر 1818( أُضيفَ للطَبعةِ الثانية عامَ 1844 مجلَّدٌ آخر منَ المقالات؛ الطَبعة الثالثة نشرَتْ عامَ 1859). في عمله هذا، قالَ شوبنهاور الإلحاديُّ المنزعِ بأنَّ كلَّ ما في العالَمِ هو تعبيرٌ عنِ العبثِ واللاغائيّةِ والسَّعيِ النَّهِمِ للوجودِ الّذي أطلق عليه اسمَ ”الإرادة“ أو ”إرادةُ الحياة“. وهذا يعني أنَّ كلَّ ما في الطبيعةِ يصارِعُ لكيْ يوجد؛ وضعٌ قائمٌ منَ العلاقاتِ يجعلُ منَ النِّزاعِ والصراعِ مستمريْن وحتمييْن. ولكنْ ليسَ الصراعُ هو ما يجعلُ العالَمَ مشكلاً لشبنهاور؛ عالَمٌ منَ القوى الفيزيائيّةِ المتصارعةِ هو ببساطةٍ عالَمُ الكونِ والفساد. يغدو الوجودُ مشكلاً مع ظهورِ الحياةِ الحيوانيِّةِ، ظهورِ كائناتٍ واعيةٍ تصيرُ مدركةً لرغبتها المُحْبَطَة، كائناتٍ تعاني الضَّجرَ والألمَ والكربَ والموت.




"يغدو الوجودُ مشكلاً مع ظهورِ الحياةِ الحيوانيِّةِ، ظهورِ كائناتٍ تصيرُ مدركةً لرغبتها المُحْبَطَة، كائناتٍ تعاني الضَّجرَ والألمَ والكربَ والموت."


قالَ شوبنهاور بأنَّ أسوأ مصيرٍ على الأطلاقِ هو أنْ تكونَ إنسانًا. جميعُ الحيواناتِ تعاني وتشعرُ بالألم، لكنَّ أهمَّ ما يميِّزُ الإنسانَ عنْ بقيةِ الحيواناتِ هو قدرته على التَّفكيرِ المَفهوميّ، الّذي عرَّفهُ بأنّه مَلَكَةُ ”العقل“. اعتبرَ امتلاكَ العقلِ خيرًا ذا حديّن؛ إذْ يخوِلُ العقلُ الإنسانَ تحقيقَ كلِّ شيءٍ يميِّزُ الحياةَ الإنسانيّةَ عنْ أيِّ شكلٍ آخرَ منَ الحياةِ الحيوانيّة، ولكنّه أيضًا يجعله معرضًا لضروبٍ أخرى منَ المعاناةِ في حينِ أنَ الحيواناتِ معفاةٌ منها. رغمَ أنَّ العقلَ يخولُ الإنسانَ تحصيلَ المعرفة، فهو يقودُ أيضًا إلى الشَّكِّ والخطإِ والحيرة. عبرَ تَعْليِّمِ المفاهيمِ بالكلمات، حَصَّلَ الإنسانُ اللغةَ وبالتالي القدرةَ على التواصلِ بطرائقَ أكثرَ تعقيدًا وكفاءةً منَ الحيواناتِ الأخرى. زعمَ شوبنهاور أنَّ مادةَ هذا التواصلِ غالبًا ما تضلِّلُ أكثرَ مما تنوِّر. اعتقدَ أيضًا أنَّ العقلَ يخولُ الإنسانَ الهروبَ منَ الحدودِ الضَّيقةِ للحاضرِ المباشرِ الّذي لا تتجاوزه الحيواناتُ الأخرى. ولكنَّ القدرةَ على التَّفَكُّرِ في الماضي وتوقعِ المستقبلِ تجعلُ الإنسانَ عُرضةً لضروبٍ أخرى منَ المعاناة. يمكنُ للماضي أنْ يسكنَ الإنسانَ وأنْ يجعله يختبِرُ مشاعرَ النَّدمِ والأسف، ويمكنُ للإنسانِ معاناةُ الخوفِ والقلقِ منَ المستقبل. بشكلٍ أكثرَ عمقًا، يعي الإنسانُ أنَّ موته ينتظره في المستقبل. يخولُ العقلُ الإنسانَ أيضًا الإعدادَ والتخطيطَ للأحداثِ المستقبليّةِ، ويتيحُ له بالتالي خياراتٍ أكثرَ ممّا هو متاحٌ للحيواناتِ الأخرى، الّتي اعتقدَ بأنّها مدفوعةٌ بمعطياتِ الحاضرِ المباشر. قالَ بأنَّ حريّةَ الاختيارِ هذه ظاهريّةٌ فقط؛ لأنَّ السُّلوكَ الإنسانيَّ الموجه بالفكرِ المجرَّدِ خاضعٌ للعلةِ والضرورةِ على حدِّ السَّواء.




"القدرةُ على التَّفَكُّرِ في الماضي وتوقعِ المستقبلِ تجعلُ الإنسانَ عُرضةً لضروبٍ أخرى منَ المعاناة. يمكنُ للماضي أنْ يسكنَ الإنسانَ وأنْ يجعله يختبِرُ مشاعرَ النَّدمِ والأسف."


بجانبِ دافعي الاستمرارِ والسَّعادةِ الشَّخصيّة، صَنَّفَ شوبنهاورالحبَّ الجنسيَّ على أنّه أقوى وأنشط دافعٍ في الإنسان. إنّه يعدُ بالمتعة، ولكنّه يجلبُ اليأسَ بالنِّهاية. قالَ إنَّ إشباعَ دافعِ الجنسِ هو تقريبًا هدفُ جميعِ جهودِ الإنسان، وإنّه يستحوذُ على نصفِ طاقاتِ فكره. يربِكُ الجنسُ حتى أعظمَ العقول، ويتعارضُ مع أهمِّ الأعمالِ الإنسانيّة، يعوقُ نشاطاتِ السياسيينَ ويتطفَلُ على أبحاثِ العلماء. مدفوعينَ بقوَّةِ الحبِّ الجنسيّ؛ يتورطُ النَّاسُ في شجاراتٍ مع أصدقائهم وعائلاتهم، كاسرينَ بذلك روابطَ أثمنِ وأقوى العلاقات. يمكنُ للحبِّ الجنسيّ أنْ يؤديَ لسقوطِ المستقيمِ والنَّبيل، ويمكنه أنْ يجعلَ أولئك الذين كانوا مخلصينَ وصادقينَ ذاتَ مرَّةٍ خونة. سيضحي النّاسُ بكلِّ شيءٍ ليشبعوا إلحاحاتهم الجنسيّة، بالثروةِ والصحةِ والمركَزِ الاجتماعي، وأحيانًا حتى بحياتهم. إذ إنَّ الجنسَ هو الوسيلةُ التي تؤكِدُ الإرادةُ بها ذاتَها باستمرار. لهذا السَّببِ اعتبرَ أنَّ العُشَّاقَ همُ الخونةُ الَّذينَ يؤبدونَ شقاءَ الحياة؛ لأنّهم ينسِلونَ أفرادًا جددًا ليرموا في هذا العالَمِ حيثُ المعاناةُ واليأسُ والموت. بهذه الرؤيةِ لنشاطِ الإنسانِ الجنسيّ، يَسْهُلُ علينا معرفةُ لماذا زعمَ شوبنهاور أنَّ التبتُّلَ الطوعيَّ هو أولُ خطوةٍ باتجاهِ الزُّهدِ ورفضِ الإرادة؛ ممّا يعني الخلاصَ منَ العالَم.




"يربِكُ الجنسُ حتى أعظمَ العقول، ويتعارضُ مع أهمِّ الأعمالِ الإنسانيّة، يعوقُ نشاطاتِ السياسيينَ ويتطفَلُ على أبحاثِ العُلماء. مدفوعينَ بقوَّةِ الحبِّ الجنسيّ؛ يتورَّطُ النّاسُ في شجاراتٍ مع أصدقائهم وعائلاتهم، كاسرينَ بذلكَ روابطَ أثمنِ العلاقات. يمكنُ للحبِّ الجنسيّ أنْ يؤديَ لسقوطِ المستقيمِ والنَّبيل، ويمكنه أنْ يجعلَ أولئك الّذين كانوا مخلصينَ وصادقينَ ذاتَ مرَّةٍ خونة. سيضحي النّاسُ بكلِّ شيءٍ ليشبعوا إلحاحاتهم الجنسيّة، بالثروةِ والصحةِ والمركَزِ الاجتماعي، وأحيانًا حتى بحياتهم"




كثيرًا ما استخدمَ شوبنهاور مصطلحي ”زهد“ و ”رفض الإرادة“ كمتردافين. ولكنّه لاحظَ أيضًا استراتيجياتِ خلاصٍ أخرى، مثلَ الصوفيّة، باعتبارها تعبِّرُ أيضًا عنْ رفضِ الإرادة؛ إلاّ أنَّ ذلك لم يثنهِ عنِ التركيزِ على ضروبِ الزُهدِ التي أظهرها القديسونَ والأرواحُ العظيمةُ ضمنَ المسيحيّة والهندوسيّة والبوذيّة. يسعى الزَّاهدُ لوأدِ الإرادةِ طوعًا برفضِ الأشياءِ المُحببةِ في الحياة، بطلبِ الأشياءِ الشَّاقة والإذلالِ المستمرِ للإرادةِ بالتقشف ومجاهدةِ النَّفس. وبناءً على ذلك، زعمَ بأنَّ الزاهدينَ يأكلون القليلَ ويهملونَ صحتهم، يتخلونَ عنْ ممتلكاتهم في سبيلِ تخفيفِ معاناةِ الآخرين، يتقبلونَ كلَّ الأذى الذي ينالهم منهم، ويَقبلونَ معاناتهم ويمارسونَ تعففهم. كانَ أعنفُ شكلٍ منْ أشكالِ الزُّهدِ هو الانتحارُ الطوعيُّ بتجويعِ النّفس، الّذي قالَ بأنّه الشَّكلُ الوحيدُ منَ الانتحارِ المُحصَّنِ ضدَّ النقدِ الأخلاقيّ. خَتمَ شوبنهاور المجلَّدَ الأولَ منَ العالَمِ إرادةً وتمثلاً بشرحِ منظورِ الزَّاهد المنسحِب، ”المنتصرِ“ على العالَم: " ... بالنِّسبةِ لأؤلئك الذين انهزمتْ فيهمُ الإرادةُ وأعدَمَتْ نفسَها، يغدو كلَّ ما في عالمنا الحقيقيّ للغاية بما فيه منْ مجراتٍ وشموشٍ لا شيئًا."


افْتُتِنَ الفيلسوفُ الألمانيّ فريدريك نيتشه (1844-1900)، إذا لم نقلِ انسحرَ، بفلسفةِ شوبنهاور باكرًا في مسيرته الفلسفيّة. فحينَ قرأ شوبنهاور لأولِ مرَّةٍ عامَ 1865، كانَ متحمسًا لهذه الفلسفةِ حدَّ أنّه شعرَ أنَّ شوبنهاور لم يكتبْ إلاّ منْ أجله. أُعجِبَ ”بـإلحادِ شوبنهاور الصادِق“؛ بموقفه البطوليِّ ضدَّ عصره، المتمثلِ بالتزامه قولَ الحقيقةِ بغضِ النَّظرِ عمّا أرادَ النّاس سماعه؛ وتناوله موضوعَ المعاناةَ بجديَّة؛ وتسليطه الضوءَ على مشكلِ المعاناةِ ومعنى الوجود. على الرغمِ منْ أنَّ عناصرَ منْ فلسفةِ شوبنهاور ظلَّتْ قابلةً للتطبيقِ طيلةَ مسيرةِ نيتشه الفلسفيّة، إلاّ أنَّ فلسفةَ شوبنهاور خيبتْ ظنه في النهايةِ ولقبَّ نفسَه ”بنقيضِ شوبنهاور“. بدأ هذا الموقفُ المعارِضُ لشوبنهاور يظهرُ على نحوٍ متزايدٍ أكثرَ فأكثرَ في مؤلفاتِ نيتشه، مثل: إنسان مفرط في إنسانيته (1878-80) والفجر (1881) والعلم المرِح (1882، 1887) وما وراء الخير والشر (1886) وفي جينالوجيا الأخلاق (1887) وأفول الأصنام (1888) وهو ذا الإنسان (1888) وعدوّ المسيح (1888).


في الواقع، استخدمَ نيتشه مصطلحَ عدوِّ المسيح حتى في معارضةِ شوبنهاور، الّذي قالَ إنَّ أيّةَ رؤيةٍ تُنكرُ المغزى الأخلاقيَّ للعالَمِ هي تلك التي شخصَّها الديِّنُ ”بعدوِّ المسيح“. لقد فضحَ تشاؤمُ شوبنهاور شرِّ العالَمِ لأنّه تجسيدٌ للإرادة. بينما أنكرَ نيتشه أنْ يكونَ للعالَمِ أيَّ مغزًى أخلاقيٍّ منْ أيِّ نوع؛ إنّه ليسَ خيرًا ولا شرًّا. بالنِّسبةِ لِنيتشه، فإنَّ الكيفيةَ التي بنى بها شوبنهاور رؤيته للعالَم تُصوره هو أكثرَ ممّا تُصورُ العالَم. في الواقع، بقدرِ ما أعلى شوبنهاور منْ قَدْرِ الزُّهدِ ورفضِ الإرادة، وجدَ نيتشه أنَّ تشاؤمَ شوبنهاور ونفوره منَ العالَم ضربٌ منَ العدميَّة. والّذي كان فوق ذلك كلّه، قهرًا للنّفس. إرادةُ العدمِ ( رفضُ الإرادة) تظلُّ إرادةً أيضًا. لذا قالَ إنَّ شوبنهاور يفضِّلُ إرادةَ العدمِ على ألاّ يريدَ على الإطلاق. هذا حررَّ الإرادةَ بالطبع. قالَ نيتشه بأنَّ هذه الاستراتيجيةَ كشفتْ أيضًا عنْ أنَّ ”تشاؤمَ شوبنهاور الرومانسيّ“ كانَ شكلاً ملتويًا منَ التفاؤل، والّذي كان يعبرُعنِ القرفِ والتعبِ منَ الحياة. لقد أسقطَ شوبنهاور كلَّ اضطراباته الداخليّةِ على العالَمِ ليتسنى له أنْ يرفضه؛ منْ أجلِ أنْ ينعمَ بالسَّكينةِ والسَّلامِ والهدوء.




"بالنسبةِ لِنيتشه، فإنَّ الكيفيةَ التي كوّنَ بها شوبنهاور رؤيته للعالَم تُصوره هو أكثرَ ممّا تُصورُ العالَم. في الواقع، بقدرِ ما أعلى شوبنهاور منْ قدرِ الزُّهدِ ورفضِ الإرادة، وجدَ نيتشه أنَّ تشاؤم شوبنهاور ونفوره منَ العالَم ضربٌ منَ العدميّة. الذي كان فوق ذلك كلّه، قهرًا للنّفس. إرادةُ العدمِ ( رفضُ الإرادة) تظلُّ إرادةً أيضًا. لذا قالَ إنَّ شوبنهاور يفضِّلُ إرادةَ العدمِ على ألاّ يريدَ على الإطلاق. هذا حررَّ الإرادةَ بالطبع. قالَ نيتشه بأنَّ هذه الاستراتيجيةَ كشفتْ أيضًا عنْ أنَّ ”تشاؤمَ شوبنهاور الرومانسيّ“ كانَ شكلاً ملتويًا منَ التفاؤل، والّذي كان يعبرُ عنِ القرفِ والتعبِ منَ الحياة. لقد أسقطَ شوبنهاور كلَّ اضطراباته الداخليِّةِ على العالَمِ ليتسنى له أنْ يرفضه؛ منْ أجلِ أنْ ينعمَ بالسَّكينةِ والسَّلامِ والهدوء"


زعمَ نيتشه بأنّه قد عانى مِنْ مرضِ شوبنهاور ”التشاؤم الرومانسيّ“ وتجاوزه عبرَ توجيه إرادته لطريقِ الصحةِ نحوَ فلسفةٍ للحياةِ، قويَّةٍ كفايةً لمعانقةِ الحياة، على الرغمِ منْ حقيقيةِ أنَّ الحياةَ قائمةٌ على المعاناة. إذنْ يزعمُ نيتشه في معارضته لشوبنهاور أنَّ فلسفته هي تشاؤمُ القوَّة، رؤيةٌ للعالَمِ تقولُ نعم للحياةِ بوعيٍ تامٍ لما في الوجودِ منْ فظاعةٍ وجدل، تقولها بوعيٍ تامٍ بجميعِ ضروبِ البؤسِ والشرِّ والبشاعةِ والعبث. هكذا وضعَ نيتشه رؤيته ”الديونيسوسيّة“، بأنْ قالَ نعم في وجه ”لا“ شوبنهاور.




ترجمة: Shiva Okleh






الثلاثاء، 12 أبريل 2016

من غراميات إميل سيوران: رسالة إلى فريدغارد توما





إميل سيوران (1911-1995) إنّه ليس فيلسوف اليأس المتشائم والقاسي الّذي كانتِ الشكوكيّة المحورَ العصابيّ لأعماله فحسب: لقد استسلمَ للحبِّ الخاطفِ أيضًا، لشغفِ مفاجئٍ في سنِّ السّبعين. فريدغارد توما، امرأةٌ شابةٌ في الخامسة والثلاثين وأستاذَ فلسفة، تكتبُ لسيوران بالألمانيّة لتعبر له عن إعجابها بأعماله. تتلو رسالتها تلك مجموعة رسائلَ ملتهبةٍ وعلاقةٍ لأربعة أشهر أخضعتْ سيوران لما سمّاه "غوايةَ الوجود"...







17 يوليوز 1981
لقدْ أصبحتِ مركزَ حياتي، إلهَ شخصٍ لا يؤمنُ بشيء، أعظمَ سعادةٍ وأكبرَ هَمٍ حلا بي حتى الآن...
بعدَ أنْ تكلّمتُ طويلاً بسخرية عن... عنْ أشياءَ مثلَ الحُبِّ (ومفاهيمَ مشابهة)، كان لابدَّ أنْ أُعاقَبَ بطريقةٍ ما، ويبدو أنَّ العِقابَ قدْ أُنْزِلَ بي أخيرًا، ولكنْ لا أهميةَ لهذا بعد.الفشلُ كلمتي الأخيرة دومًا. ومع ذلك، ما تزالُ أمامي إمكانيةٌ أخيرة: أنتِ منذورةٌ للحياةِ الهامشيّة، حتى وإنْ كان تحفظكِ هذا يبدو لكِ بسيطًا، إلاّّ أنّه يعني الشيءَ الكثير، - على الأقلِّ بالنّسبةِ لي.
لطالما اعتبرتُ نفسي هامشيًّا، وداخليًّا، أتصرَّفُ على أنّني كذلك حتى بعدَ أن تُرجمتْ كتبي إلى كلِّ اللُغاتِ العالميّة، ومن ضمنها لغةَ أكلةِ لحومِ البّشر.



ترجمة: Achraf Nihilista



الخميس، 19 نوفمبر 2015

الخالق السيّئ - إميل سيوران








باستثناءِ بعضِ الحالاتِ الشَّاذة، لا يميلُ الإنسانُ بطبعه إلى الخيرِ؛ إذْ أيُّ إلهٍ سيدفعه إليه؟ عليه أن ينتصر على نفسه، أن يلجُمها، إن هو أراد القيام بأقلِّ حركةٍ غير مساقةٍ بالشّر. يستفزُّ ربَّهُ ويهينه كلَّ مرَّةٍ ينجح في ذلك. وإن حدث وكان خيّرًا دون سعي أو تخطيط، وإنّما بطبعه، فذلك بفضل هفوة علويّة: إنّه يتموضع خارج النظام الكونيّ، حيث إنّه لم يرد في أيّة خطةٍ إلهيّة. ليس بإمكاننا تحديد مكانه بين الكائنات، ولا حتى إن كان منها حقًا. أهو شبح؟
الخير هو ما كان أو ما سيكون، لكنّه أبدًا ليس ما هو قائم الآن. تَطفُل ذكرى أو توقُع، إما غابرٌ أو ممكن، لكن لا يمكن أن يكون حاضرًا أو قائمًا بذاته: لا ينتبه إليه الوعي طالما هو حاضر، ولا يدركه إلاّ حين يختفي. كلُّ شيءٍ يؤكدُ لاماديّته؛ إنّه قوّة عظيمة غير واقعية، إنّه المبدأ الذي أَجهَض، في البداية الأولى، فشلاً وتداعٍ سحيق، والذي تنكشف نتائجه مع مضيّ التاريخ. في النشأة، في ذلك العماء الذي أطلق زحف العالَم باتجاه الحياة، لابدَّ أنَّ شيئًا  فاحشًًا قد حدث، والذي لا يزال، لغاية الآن، يتغلغل في قلقنا إن لم يكن تفكيرنا. كيف يمكن ألأّ نفترض أنّ الوجود قد دٌنِّس في منبعه، الوجود ومعه جميع العناصر؟ ذاك الذي لا يجد نفسه مجبرًا على التفكُّر في هذه الفرضية مرَّةً واحدةً كلَّ يوم على الاقل،  يكون قد قضى حياته مُسرنمًا.
***
إنّ من الصعب، بل من المستحيل، التصديق بأنَّ الإله الطيّب،«الأب»، قد تورّط في عار الخلق. كلُّ شيءٍ يدفعنا لتبرئته، للعثور على إله معدوم الضمير نعزوه إليه، إلهٍ ذميم. الخير لا يَخلق: إنّه يفتقر للخيال اللازم لتشكيل عالَم، حتى ليشكّل عالمًا كيفما اتفق. وإذا توخينا الدقة، يلزم مزيج من الخير والشرِّ لتظهر حركةٌ أو عمل، أو حتى كون مكتمل. أما كوننا، كيفما قلبناه، لا نجد بدًا من رده لإلهٍ مريبٍ عوض إلهٍ جليل.
 قطعًا لم يكن الإله الخيّر مجهزًا ليخلِق: إنّه يمتلك كلَّ شيءٍ عدا الجبروت. عظيمًا بنقائصه (الأنيميا والخير يتآلفان معًا)، يعدُ هذا الاله النموذج الأوليّ لعدم الفاعليّة: ليس بوسعه مساعدة أحد... بالمناسبة، لا نتعلقُ به إلاّ حين نتجرّد من بعدنا التاريخيّ؛ وما إن نستعيده  حتى يغدو الإله غريبًا، لا يعودُ بوسعنا فهمه: أو على الأقل لا يعود لديه ما يسحرنا مجرّدًا من الوحش داخله. بدءًا من تلك اللّحظة نتجه للخالق، لإلهٍ دنيء وحِشَرَيّ، لمدبرِ الأحداث. لنفهم كيف تمكن من الخلق، علينا أن نتخيله متعلقًا بالشّر، والذي يعني الابتكار؛ إذ إن التعلُّق بالخير تعني العطالة. كفاحه هذا بلا شكّ مضرٌّ بالشّر؛ لأنّه لابدَّ أن يخرج ملوثًا بالخير: ما يفسر لماذا لم تكنِ الخليقة شرًّا بالمطلق. 
بما أنَّ الشّرَّ يوجِه  كلِّ ما هو قابل للفساد، أيِّ  كلِّ ما هو حيّ، من السُخف أن تحاول تبيان أنّه موجودٌ أقلّ من الخير، أو أنّه غير موجودٍ على الإطلاق. أولئك الذين يربطون الشَّرَّ بالعدم يتخيّلون أنّهم ينقذون بذلك الإله الطيّب المسكين. لا يمكن إنقاذه إلاّ تحلينا بالشَّجاعة لفصل قضيته عن قضيّة الخالق. لأنَّ المسيحيّة قمعتْ هذه الفكرة، سعتْ جاهدةً طيلة مسيرتها لتثبتَ فرضيّة إلهٍ رحيم، سعيٌ بئيس أدى لإنهاك المسيحيّة والإضرار بالإله الذي كانتْ تسعى لإنقاذه.
لا يمكننا منع أنفسنا من الاعتقاد بأنَّ الخليقة، والتي لم تكن قط أكثر من مسودة خلقية، ما كان من الممكن لها أن تكتمل، ولا استحقتْ أن تكتمل، إنّها في المُحصلة مجرّد خطأ؛ وبناءً على ذلك، تبدو خطيئة الإنسان الشهيرة كنسخةٍ مصغرةٍ عن خطيئةٍ أكبرَ وأشنع. أيُّ شيءٍ هي تهمتنا إن لم تكن أنّنا اتبعنا نموذج الخالق بنوع من الخنوع؟  ندرك في دواخلنا النكبة التي ألمتْ به بوضوح: ليستْ مصادفةً أنّنا نتاجُ إلهٍ شقيٍ وشرير، إلهٍ ملعون.


ترجمة: Achraf Nihilista


الجمعة، 2 أكتوبر 2015

كيف أنقذ سيوران حياتي؟





كيف أنقذ سيوران حياتي؟ - رولان جاكار:


  • متشائمًا منذ طفولته، سرعان ما أُعجِب الكاتب رولان جاكار بسوداوية إميل سيوران، هذا المفكر الذي سمح له أن يكون أكثر سلاسة في عدميته. شهادة.


رولان جاكار
فريدغارد توما برفقة إميل سيوران


لم يكن الطفل الذي كنته يفهم كيف استطاع والداه إلقاءه في هذا الجحيم الذي هو العالَم. كنتُ أعاتبهم بشّكل لا واع. حتى في أوقات السلم والازدهار. ولكن في عام 1941... كان المراهق الذي كنته قد قرأ بوذا وشاركه تشاؤمه، ولم يكن يعرف أنّه سيقابل في وقتٍ لاحق تمثلاً جديدًا للبوذا: بوذا من الكاربات، ولم يتوقع أن هذا العدميّ الماكر سيصبح صديقه.
قبل أن أذهب لزيارته في منزله في 26 شارع الأوديون، كنتُ قد قرأت له كثيرًا وملأتُ جدران شقتي الصغيرة بشذراته اليائسة. كنتُ أحسب يأسه لاذعًا، وقد كان كذلك. جمع بين مثاليّة الأسلوب والسوداويّة التامة. لم تكنِ القضية أن تكون يائسًا، بل كيف تكون كذلك بأناقة، ألّا تقلّل من أهميّة التناقضات الداخليّة وأن تؤثِثَ بالفكاهة عنف الكلمة. لم يكنِ الشّكل الأدبيّ الذي كان يفضله، أيْ الشذرة، يسمح بأيّة هفوة، حتى أولئك الذين أبغضوه اعترفوا له بجدارته: نجاحه في تحويل الرومانيّ المشاغب والشاعريّ الذي كانه قبل وصوله إلى فرنسا، إلى حكيم يقبل شامفور، باسكال، أو لاروشفوكو أن يضموه لناديهم.
 كانتِ امرأة، سيسي، زوجة فرانسوا جوزيف إمبراطور النمسا وهنجاريا، وفيلسوف شاب انتحر بعمر الثالثة والعشرين: أوتو فايننغر، هما ما خلق صلة بيننا منذ البداية.  نقلتْ ليّ أمي، ابنة مدينة فيينا، شغفها بسيسي. ودفعتني عوائق الحياة الجامعيّة لتوطئة كتاب "جنس وشخصيّة" لأوتو فايننغر، أكبر مُؤلَّفٍ معادٍ للنساء والساميّة كُتبَ على الإطلاق. اكتشف فرويد العبقريّة لدى أوتو، واعتبره هيتلر اليهوديّ الوحيد الذي يستحق الحياة؛ إما سيوران فأعجب بانتحاره المبكر في معقل بيتهوفن – وبكلّ الانتحاراتِ التي تسبّب بها بمجرّد نشره لكتابه. لطالما فضل سيوران بوابًا مشنوقًا على شاعرٍ على قيد الحياة. كان يجذبه سحر الحالاتِ القصوى، وقد وجده عند فايننغر، الذي نال إعجاب 
فيتجنشتاين والإمبراطورة سيسي.

ما كان يجمع سيوران وسيسي هو هوسهما بالانتحار ورغبتهما بهجر العالَم. وفي ذلك الهجر لاقتْ سيسي حتفها؛ إذ طعنها الأناركيّ الإيطاليّ لويجي لوتشيني على رصيف مونت بلان في جنيف، والذي  كان قد أخطأ هدفه. كانت هذه النهاية العبثيّة والمُربكة تجذب سيوران الذي اعتبرها أكبر خدمة قُدِّمَتْ لسيسي.


الإمبراطورة سيسي


نعم، مثّلَتْ سيسي لسيوران التجسيد الحيّ للميلانخوليا. لقد كانتْ تُعّرِّفُ الميلانخوليا تعريفًا جميلاً بالمناسبة: "الميلانخوليا هي حملُ راية سؤال "ما الجدوى؟". إنّها  الشّعور بانتصار المحتوم كلحن دون توقف، كنغمة أساسية للحياة". كان حين يشعر باقتراب الاكتئاب، يخلد للنوم على إيقاعات الفادو. نصحني بأن أفعل ذلك أيضًا، بينما كان يكفيني فرانسواز هاردي. 
نحن مخطئون، رغم كلّ ما سبق، إن تخيلنا سيوران حزينًا أو ساخطًا. حتى في نهاية حياته، حين كان يتظاهر بأنّه لا يزال حيًّا -بتعبير سيوران نفسه-، كان مستعدًا للضحك على كلّ شيءٍ، أو تقريبًا كلّ شيء. أتذكر بهذا الخصوص أنّه أظهر مزاجًا سيئًا مرّتين فقط. المرّة الأولى كانتْ حين عرَّفتُهُ على فيلسوف كانتْ زوجته الشابة حبلى؛ إذ كان يرى أن امتناع المرأة عن الإجهاض دليل على انعدام الإحساس لديها. المرّة الثانية  كانتْ حين طلب منه صديق جامعيّ أن يوقع له إهداءً على كتبه؛ إذ رفض قائلاً إنّ هذه كلّها -في إشارة لكتبه- ليستْ سوى تُرَّاهات. لقد رفض تمامًا أن يُؤخذ على محمَل الجدّ.
 كانتِ العشاءات التي ينظمها بشكل دوري في منزله باذخة، ولكنّه كان يرفض الأكل. نظامه الغذائيّ كان صارمًا: خضار مطهوة على البخار وفواكه مطبوخة بالسُّكَّر. ولكنّه كان يستمتع برؤية أصدقائه يعجبون بأطباقه. فرانسوا بوت، غابرييل ماتزنيف، ليندا لي وديما إيدي هم ضيوفه المفضلون. شكّلنا حول من سميناه "أستاذنا الرائع من دييب" حرسًا مقربًا. لماذا من دييب؟ لأنّه كان يحب قضاء العطلة في كوخه هناك. وعلى الرغم من الطوابق السِتْ التي كان عليه أن يصعدها عدّة مرّات في اليوم ليصل شقته الصغيرة في شارع الأوديون، لم نكن نخشى عليه من شيء. فبالرغم من قامته القصيرة، كانتْ حيويّته استثنائيّة. وكنا غالبًا ما نتركه حوالي الساعة الثانية، أكثر تعبًا ممّا كان هو عليه.
كان يبدي اهتمامًا شديدًا لأصدقائه، وكان حاضرًا دائمًا ليحضر لهم الدواء والفواكه عند أقلّ ألم. على أيّة حال، ما كان يزعجه هو قضائي أنا وماتزنيف أيامًا كاملة في مسبح ديليني تحت شمس حارقة حيث كنا نتواجه في تنس الطاولة. بينما هو كان يفضل الجولاتِ الليليّة حول حديقة اللكسمبورغ. اعترافات، ثرثرة باريسيّة، تقويض مفكرين معاصرين، كل هذا يتم بفكاهية وحس دعابة لم أخبر لهما مثيلاّ إلّا عند ندرة من الكتاب والفنانين، باستثناء رولان توبور وكيلمون روسي، وهما كاتبان كان يحبهما سيوران أيضًا، كما كان يتمرّن على الفن الأصيل من فيينا "لبرودلن"، أيْ أنّه يلعب دور الأبله بذكاء.
دفعه ذوقه الميال للقيامة لامتداح هتلر في شبابه. قبل وفاته بقليل، قام طلبة جامعيون بنشر نصوص تفوح بقوميّة مقيتة أخفاها بحرص شديد. كنتُ متفاجئًا ومحبطًا منها في آن. إذن حتى هو خضع للجنون الذي اجتاح أوروبا في الثلاثينيات. حضرتُ جنازته على مضض تقريبًا، الرسمياتُ التي تتوالى، الصلواتُ الأرثودوكسيّة، غثاثة التكريمات، هذا كلّه أشعرني بالدوار. أين ذهب سيوران الذي عرفته؟ لقد تطلب مني الأمر عدّة سنواتٍ لأجده من جديد. ساعدتني امرأة على ذلك، اسمها فريدغارد توما وكانتْ على علاقة به. وهكذا إذن، حتى سيوران كانتْ له حياتان. كم هذا مريح! ألفتُ كتابًا عما أدين له به، سميّته "سيوران والرفقة" عام 2005. ووضعتُ عنوانًا لهذا البورتريه "كيف أنقذ سيوران حياتي؟" وهو عنوان يشدك مع أنّه تافه. وهكذا، سيوران لم ينقذ حياتي. حيث إنّه لو كان فعلها لاعتبرها فَعلة مشينة. وأنا أيضًا كنتُ لأعتبرها كذلك. ساعدني سيوران على أن أكون أكثر سلاسة في عدميّتي وأكثر حقيقيّة في علاقتي بالآخر. ذلك يستحق أن أكتب له هذا التكريم. أليس كذلك؟




ترجمة: Achraf Nihilista



_____________________________________________________

هوامش المترجم:
  1. الكاربات - Carpates: سلسلة جبلية تتواجد بها مدينة سيبيو حيث وُلد و ترعرع إميل سيوران.
  2. شامفور - Nicolas chamfort: كاتب فرنسيّ منتحِر، عاش في القرن الثامن عشر.
  3. باسكال - Blaise Pascal: فيلسوف ورياضيّ و فيزيائيّ فرنسيّ، كان سيوران من أشد المعجبين بكتاباته.
  4. لاروشفوكو - François de La Rochefoucauld: مفكر وكاتب فرنسيّ اشتهر بكتابه Maximes، يكتب بنفس أسلوب سيوران، أيْ الشذرة.
  5. سيسي - Elisabeth en Bavière: إمبراطورة النمسا وهنغاريا، معروفة باسم Sissi.
  6. أوتو فايننغر - Otto Weininger: كاتب نمسويّ انتحر في سنّ الـ 23.
  7. دييب - Dieppe: من المناطق المفضلة لسيوران في فرنسا.
  8. للتعرف على باقي الأعلام المرجو الضغط على أسمائهم: فيتجنشتاين - فرانسوا بوت - غابرييل ماتزنيف - ليندا لي.

الأحد، 13 سبتمبر 2015

عصر المائة وأربعين حرفًا - تأملات في فعل الكتابة.






"أنا مُغتاظ من كتاباتي.أنا مثل عازف كمان أذنه ممتازة، لكن إصبعه تأبى إعادة إنتاج الصوت الذي يسمعه داخله." -غوستاف فلوبير



لم أتأمل شيئًا طيلة حياتي مثلما تأملتُ فعل الكتابة، حتى إن تأملاتي هذه ثنتني عن أشياءَ كثيرة أخرى، من ضمنها الكتابة. انتهيتُ إلى أنّ الكاتب لا يكون كذلك بنصوصه أو كلماته، وإنّما برؤيته، بل واعتبرت ُنفسي كاتبًا دون أن أجرؤ على تسويد سطرٍ واحد.
لقد عرفتُ الكتاب الرديئين عن قرب، ووجدتُ أنّ ما يميزهم هو قدرتهم على الكتابة. لا يمكن بأيّ حال اعتبارهم كتابًا، رغم نصوصهم الجيّدة.
حريٌ بالكتاب التوقف عن الثرثرة واستهلاك نفوسهم، بل والنزوع إلى الصّمت. كيف لمن يعرضُ فيضَ انفعالاته ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال أن يرقن الكلماتِ دون أن يشعر  بالعار؟!
لاعتباراتٍ اجتماعية، صار هؤلاء الرديئون يفاخرون بأنّهم لا يكتبون للآخر، بل لنفوسهم. هذه فكرة كلّ كُتاب هذا القرن، وهي -بالمناسبة- استمناءٌ لغويٌّ لا أكثر. الكتابة لا تكون لأحد - ولا حتى للنّفس.
الجبنُ صفة أصيلة في الكاتب، تمامًا مثل التمرّد. إنّه متمرّد سلبي، ضدّ نفسه. من هنا تتضح مهمة الكاتب: إنّه لا يتجاوز نفسه إلاّ ليلاحقها ويبحث عنها من جديد.
أجِدُني أتفقُ مع تلك الفكرة السيورانيّة التي تقول إنّ الانعتاق والخلاص يفيدان الإنسان ولكنّهما يقوضان الكاتب.
 يطاردُ كتاب هذا العصر أيضًا  المشاعر السلبيّة في الفشل، والحال أنّ الظّفَر قد يكون أيضًا منبعًا لها:  ليس الظّفَرُ خطرًا على الكاتب، وإنّما التصالح مع الظّفَر.
عند تسويد الأوراق، الكاتب الجيّد هو كاتب مقتصد، رغم ما يختبره من إغراءاتٍ بالإسهاب والتوسّع. حتى في عصر المائة وأربعين حرفًا، الاقتصاد في الكلمات بما لا يدع مجالاً للتعديل هو ما يميّز الكُتاب، ذاك الذي يقبل تغيير فاصلةٍ واحدةٍ في نصه يكفُّ عن كونه كاتبًا.
ليس الاختلال وحده ما يميز الكاتب الجيّد، ولطالما اعتقدتُ أنّه لا يوجد كاتبٌ جيّد وآخر سيئ، بل يوجد كاتب حقيقيّ، عميق، متوازن ومختل، فاجر وفاضل؛ وشبه كاتب، مجرّد اسم فاعلٍ من "كَتَبَ"، معاق، محدود، متزّمتُ العقل؛ لا يفضي به بحثه عن الكلماتِ إلاّ لمرادفاتها. البحث عن الكلمات هو بالضّبط ما على المرء تجنبه، عليها أن تخرج من روحكَ كالصاروخ بتعبير بوكوفسكي.
وفي النهاية، أكبر خطإ قد يقدم عليه كاتبٌ ما هو أن يبرّرعملاً ما. على النّص أن يظهر شخصيته ويحمل مبرّراته بين سطوره، أن يصير كيانًا مستقلاً ومتمرّدًا على كلّ شيءٍ بدءًا من كاتبه، عليه أن يزيحه ليجد مساحته ومكانه.



بقلم: Achraf Nihilista


الخميس، 10 سبتمبر 2015

رسالة حول بعض المآزق- سيوران


نص من كتاب "غواية الوجود - "La tentation d'exister" لإميل سيوران.




من اليمين إلى اليسار: ميرسيا إلياد و يوجين يونيسكو وإميل سيوران




لطالما اعتقدتُ يا صديقي العزيز، أنّك بحُبكَ لمُقاطعتِكَ لمْ تكن تمارسُ سوى تمرينٍ في التّحلّل والكرهِ والصّمتِ. ولا أستطيعُ أنْ أصِفَ انعدامَ المفاجأةِ الذي استقبلتُ فيه خبرَ أنّكَ تحضِّرُ كتابًا عنها! مباشرةً، رُسِمتْ في مخيِّلتي صورةَ الوحشِ الذي ستصيره: أعني الكاتِبَ الذي ستصيره. "شخصٌ آخرُ ضَيَّعَ الطريق" هكذا فكَّرت. لعلّكَ لم تسألني عنْ أسبابِ خيبتي هذِه خجلاً؛ وحتى أنا ما كنتُ لأستطيعَ البوحَ بها بصوتٍ عالٍ. "شخصٌ آخرُ ضلَّ الطَّريق، شخصٌ آخر دَمِّرته موهبته." هكذا ردَّدْتُ في نفسي دونَ توقف.


باقتحامِكَ للجحيمِ الأدبيّ؛ ستتعرفُ على أوهامهُ وسمّه؛ مطرودًا منَ الآني بنسخةٍ مُشَوّهةٍ عنْ نفسك؛ لن تخوضَ سوى تجاربَ معروفةٍ ومشبوهةٍ؛ سيغمى عليكَ في الكلمةِ. ستصيرُ الكتبُ موضوعَ جميِعِ محادثاتك. وبالنّسبةِ للأدباءِ، فلن تنالَ منهم أيَّ شيءٍ يذكر. ولن تدركَ هذا حتى تُضَيِّعَ أجملَ سنواتكَ في مجالٍ بلا أيِّ عمقٍ أو محتوى.

الأديبُ؟ إنّه مدَّعٍ يحُطُ منْ قيمةِ مآسيهِ بكشفها والرجوعِ إليها دونَ توقّفٍ. المجُونُ -عرضُ أفكارهِ الخفيّة- هو قاعدتهُ؛ إنّه يهبُ نفسه. كلُّ شكلٍ من أشكالِ الموهبةِ لا بدَّ أنْ يكونَ مصحوبًا ببعضِ الغطرسةِ والاستعراض، لا يُستثنى منْ هذه القاعدةِ إلا العقيم، ذلكَ النّبيُّ الذي يطمسُ نفسهُ وسرّهُ؛ إذ إنّه يهملُ فكرةَ كشفِ سرِّه: المشاعرُ المكشوفةُ هي معاناةٌ معروضةٌ للسُّخريةِ، صفعةٌ في حقِّ روحِ الدُّعابةِ. احتفاظُ المرءِ بسرِّهِ حتمًا صفقةٌ ناجحة له؛ لأنَّ السرَّ يسيطرُ عليكَ، ينخركَ منَ الأعماقِ ويهدِّدُك. حتى حينَ يكونُ موجَّهًا لله، يشكِّلُ الاعترافُ اغتيالاً لنفوسنا وللنّوابضِ الأساسيةِ لكينونتنا.

القلقُ، العارُ، الفزَعُ وكلُّ الحالاتِ التي تسعى مختلفُ الطّرقِ الدينيَّة -والدنيئة بشكلٍ عام- لتخليصنا منها، تشكِّلُ تراثًا لا ينبغي أنْ نتخلّى عنهُ مقابلَ أيِّ ثمن. علينا أنْ نُحصِنَ نفوسنا ضدَّ أولئك الذين يسعونَ لشفائِنا. علينا أنْ نحافِظَ على آلامنا وأخطائنا حتى لو كلّفنا هذا حياتنا. 
كرسيُّ الاعترافِ: انتهاكٌ باسمِ السَّماءِ لعقولٍ خطَّاءةٍ. والانتهاكُ الآخرُ يتكفلُ به التحليلُ النفسيّ!
بعدَ علمَنَتِهِ وتَعْهِيْرِهِ، سيشيدُ كرسيُّ الاعترافِ ذاتَ يومٍ عندَ كلِّ ملتقى طرقٍ: لا ينقصنا سوى المزيدِ منَ المخطئينَ حتى يسعى الجميعُ لينالَ روحًا مفضوحةً على ملصقٍ عموميّ.



ترجمة: Achraf Nihilista




الأربعاء، 5 أغسطس 2015

مقتطف من نزيه أبو عفش



مقتطف من نزيه أبو عفش



صورة  للشّاعر نزيه أبو عفش




سأُسوِّي حسابي مع الوقت. سأُسوِّي حسابي معَ العالَم. 
كإلهٍ نشيط، كطاغية، كشاعرٍ مائلٍ إلى الصَّمت..
أنقرُ على غلافِ الكوكبِ وأُوقِظُ سكانهُ منَ الذُل.  
أطلقُ البركانَ منْ قوقعتهِ وأحرِّرُ العاصفةَ منْ نومها.
أمزِجُ السّماءَ بالأرضِ وأقفلُ روحَ العالَم.
أقطعُ الممراتِ إلى الماضِي .. وأُلغي الحَرَكَة.
أتكئُ على أسراري وغموضي وأحلُمُ بالزلازل..
ثمَّ أجلسُ في الهواءِ المُعْتِمِ وأرْقُبُ هلاكَ العالَم.

والعالَمُ، جميعًا.. جميعًا.. جميعًا، يطلقُ صرختهُ المستديرةَ الكاسِرة، كامرأةٍ تدركُها اللّذَّةُ في خاتمةِ الاغتِصاب.

: إليكم عني

لا رحمَةَ لأحد

لا غُفرانَ لأحد
موتًا. موتًا. موتًا. هذا ما أريدُ أنْ أصنع.
موتًا. موتًا. موتًا. هذا ما أُعِدُّ..
موتًا. موتًا. موتًا. هكذا أتقي هذا العالَم.