باستثناءِ بعضِ الحالاتِ الشَّاذة، لا يميلُ الإنسانُ بطبعه إلى الخيرِ؛ إذْ أيُّ إلهٍ سيدفعه إليه؟ عليه أن ينتصر على نفسه، أن يلجُمها، إن هو أراد القيام بأقلِّ حركةٍ غير مساقةٍ بالشّر. يستفزُّ ربَّهُ ويهينه كلَّ مرَّةٍ ينجح في ذلك. وإن حدث وكان خيّرًا دون سعي أو تخطيط، وإنّما بطبعه، فذلك بفضل هفوة علويّة: إنّه يتموضع خارج النظام الكونيّ، حيث إنّه لم يرد في أيّة خطةٍ إلهيّة. ليس بإمكاننا تحديد مكانه بين الكائنات، ولا حتى إن كان منها حقًا. أهو شبح؟
الخير هو ما كان أو ما سيكون، لكنّه أبدًا ليس ما هو قائم الآن. تَطفُل ذكرى أو توقُع، إما غابرٌ أو ممكن، لكن لا يمكن أن يكون حاضرًا أو قائمًا بذاته: لا ينتبه إليه الوعي طالما هو حاضر، ولا يدركه إلاّ حين يختفي. كلُّ شيءٍ يؤكدُ لاماديّته؛ إنّه قوّة عظيمة غير واقعية، إنّه المبدأ الذي أَجهَض، في البداية الأولى، فشلاً وتداعٍ سحيق، والذي تنكشف نتائجه مع مضيّ التاريخ. في النشأة، في ذلك العماء الذي أطلق زحف العالَم باتجاه الحياة، لابدَّ أنَّ شيئًا فاحشًًا قد حدث، والذي لا يزال، لغاية الآن، يتغلغل في قلقنا إن لم يكن تفكيرنا. كيف يمكن ألأّ نفترض أنّ الوجود قد دٌنِّس في منبعه، الوجود ومعه جميع العناصر؟ ذاك الذي لا يجد نفسه مجبرًا على التفكُّر في هذه الفرضية مرَّةً واحدةً كلَّ يوم على الاقل، يكون قد قضى حياته مُسرنمًا.
***
إنّ من الصعب، بل من المستحيل، التصديق بأنَّ الإله الطيّب،«الأب»، قد تورّط في عار الخلق. كلُّ شيءٍ يدفعنا لتبرئته، للعثور على إله معدوم الضمير نعزوه إليه، إلهٍ ذميم. الخير لا يَخلق: إنّه يفتقر للخيال اللازم لتشكيل عالَم، حتى ليشكّل عالمًا كيفما اتفق. وإذا توخينا الدقة، يلزم مزيج من الخير والشرِّ لتظهر حركةٌ أو عمل، أو حتى كون مكتمل. أما كوننا، كيفما قلبناه، لا نجد بدًا من رده لإلهٍ مريبٍ عوض إلهٍ جليل.
قطعًا لم يكن الإله الخيّر مجهزًا ليخلِق: إنّه يمتلك كلَّ شيءٍ عدا الجبروت. عظيمًا بنقائصه (الأنيميا والخير يتآلفان معًا)، يعدُ هذا الاله النموذج الأوليّ لعدم الفاعليّة: ليس بوسعه مساعدة أحد... بالمناسبة، لا نتعلقُ به إلاّ حين نتجرّد من بعدنا التاريخيّ؛ وما إن نستعيده حتى يغدو الإله غريبًا، لا يعودُ بوسعنا فهمه: أو على الأقل لا يعود لديه ما يسحرنا مجرّدًا من الوحش داخله. بدءًا من تلك اللّحظة نتجه للخالق، لإلهٍ دنيء وحِشَرَيّ، لمدبرِ الأحداث. لنفهم كيف تمكن من الخلق، علينا أن نتخيله متعلقًا بالشّر، والذي يعني الابتكار؛ إذ إن التعلُّق بالخير تعني العطالة. كفاحه هذا بلا شكّ مضرٌّ بالشّر؛ لأنّه لابدَّ أن يخرج ملوثًا بالخير: ما يفسر لماذا لم تكنِ الخليقة شرًّا بالمطلق.
بما أنَّ الشّرَّ يوجِه كلِّ ما هو قابل للفساد، أيِّ كلِّ ما هو حيّ، من السُخف أن تحاول تبيان أنّه موجودٌ أقلّ من الخير، أو أنّه غير موجودٍ على الإطلاق. أولئك الذين يربطون الشَّرَّ بالعدم يتخيّلون أنّهم ينقذون بذلك الإله الطيّب المسكين. لا يمكن إنقاذه إلاّ تحلينا بالشَّجاعة لفصل قضيته عن قضيّة الخالق. لأنَّ المسيحيّة قمعتْ هذه الفكرة، سعتْ جاهدةً طيلة مسيرتها لتثبتَ فرضيّة إلهٍ رحيم، سعيٌ بئيس أدى لإنهاك المسيحيّة والإضرار بالإله الذي كانتْ تسعى لإنقاذه.
لا يمكننا منع أنفسنا من الاعتقاد بأنَّ الخليقة، والتي لم تكن قط أكثر من مسودة خلقية، ما كان من الممكن لها أن تكتمل، ولا استحقتْ أن تكتمل، إنّها في المُحصلة مجرّد خطأ؛ وبناءً على ذلك، تبدو خطيئة الإنسان الشهيرة كنسخةٍ مصغرةٍ عن خطيئةٍ أكبرَ وأشنع. أيُّ شيءٍ هي تهمتنا إن لم تكن أنّنا اتبعنا نموذج الخالق بنوع من الخنوع؟ ندرك في دواخلنا النكبة التي ألمتْ به بوضوح: ليستْ مصادفةً أنّنا نتاجُ إلهٍ شقيٍ وشرير، إلهٍ ملعون.
ترجمة: Achraf Nihilista
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق