الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

أوشو... عن كارل يونغ وعلم النّفس الغربيّ







أوشو... عن كارل يونغ وعلم النّفس الغربيّ






ثمة طريق وحيدة بلا استثناء، إنّها طريق التأمُّل— والّتي ظلَّ علم النّفس الغربيّ يتجنّبها. ظلَّ يتجنَّب ليحمي بنيته وأدبياته برمتهما. مؤسسوه ومحلّلوه النّفسيين الكبار، كلُّهم سيغرقون، سيُنسَون لو دخل التأمل المجال. لأنّ التأمُّل يستطيع مساعدتك لتكتشف شيئًا يتجاوز عقلك.
يوجد الإيجو بين العقل والجسد. إنّه كيان زائف. ليستِ الذّاتُ موجودةً بين العقل والجسد، إنّما وراء العقل. ولتبلغ الذَّاتَ عليك أن تتعلَّمَ طرائق إسكاتِ العقل، بحيث تختفي ثرثرته المستمرة. وذلك لأنَّ الذَّات الحقيقيّة صمتٌ مطلق.
ما لم يُدمِج علم النّفس الغربيّ التأمُّل، فسوف يظلُّ موثقًا إلى الأنا. لا يستطيع ترك الإيجو لأنّ دون إيجو لا يعود عندها ثمة مركز للإنسان. على الأقل ثمة شيء— قد يكون زائفًا— لكنّه شيءٌ نتمسَّك به... لكنّه يدمِّر حياة الإنسان كلِّها. يزيد من اندفاعه أكثر فأكثر، يجعله أسرع دون أن يعرف إلى أين هو ذاهب. ولماذا هو ذاهب، دون حتى أن يتقصى من يكون. 
لم يسأل علمُ النّفس الغربيّ سؤالًا أساسيًّا— مَنْ أنا؟— لأنّ هذا السؤال سيدمِّر الإيجو الزّائف. وأن تسأل ذلك السؤال يعني أن تدخل عالَمَ التأمُّل، والتأمُّل بإيجاز هو حالة من اللاعقل. ولقد خاض علم النّفس الغربيّ، وما يزال، آلامًا كبيرة لينكر أيّة حالةٍ كهذه من اللاعقل— إنّ العقل نهاية وجودك— موقف غير علميّ بالمرّة من دون استكشاف أو حتى الاطلاع على التّاريخ الطويل لمتصوِّفي الشّرق— ليس علم النّفس الغربيّ سوى علمٍ بعمر... قرن واحد. لقد وُلِدَ للتو.
يقارب عمر الصوفيّة الشرقيّة عشرة آلاف سنة. ليستْ قضيّة كلمة رجل واحد، أو بلد واحد؛ بل بلدان محتلفة وأعراق مختلفة وأزمنة مختلفة، ولم يكن بينها تبادل في الأفكار، وصلوا جميعًا إلى نفس الخلاصة. لا يمكنك أن تواصل تجاهل الأمر ببساطة. نصف البشريّة— وعلى الأرجح النّصف الأفضل؛ لأنّه تحضَّر قبل الغرب، تثقف قبل الغرب بزمن طويل، عاش كلَّ الأمجاد الّتي يعتقد الغرب أنّه يبلغها الآن... عند النظر إلى أدب تلك الشعوب ومخطوطاتها وموسيقاها وشعرها، سيكون عليك أن تفكِّر أنّ النّاس الّتي أبدعتْ مثل هذه المخطوطات، ومثل هذا الشعر العظيم، ومثل هذا الرسم العظيم، ومثل هذه الموسيقا العظيمة، لا يجب تجاهلها اعتباطًا. يجب الاستماع إليهم بحرص ويجب استكشاف كلِّ ما يقولونه دون أيِّ تحيُّز. إنّهم يقولون إنّ العقل ليس نهاية الإنسان؛ بل اللاعقل هو حقيقته الجوهريّة.
العقل ظاهرة متغيّرة، إنّه جريان متواصل— ونعلم ذلك! إنّه يتغيّر كلَّ لحظة. إن الأفكار في حالة ازدحام مستمرّة. لا تستطيع إبقاء فكرة واحدة في عقلك لأكثر من بضع لحظات. إنه جريان متواصل غير مستقر. ليس بوسعه تأسيس حقيقة الإنسان الجوهريّة. ثمة حاجة لشيء أكثر تماسكًا. وهو هناك، لقد تمّ اكتشافه. عاشه ناس. وبوسعك رؤية الفرق: ما يزال أعظم محلّل نفسيّ في الغرب عرضة لنفس ضروب الأمراض مثل أيِّ إنسان عادي، لنفس الجنون، لنفس الشيزوفرينيا. بخصوص خبرته، فهو متمرّسٌ جيّدًا بالفعل، لكن فيما يخص إنسانيته، هو عادي كأيِّ شحض آخر. ليس فيه تحوّل جذريّ.
اشتُهرَ الأطباء النفسيون بأنّهم يغتصبون مرضاهم— أنّى لهؤلاء النّاس إذن أن يقدموا المساعدة ؟ يصاب أطباء النّفس بالجنون ضعف ممارسي المهن الأخرى. وينتحرون بمقدار ضعفي من ينتحرون من ممارسي المهن الأخرى. ليسوا أناسًا مرحين، ليسوا هادئين وساكنين، لا تبدو عليهم سكينة الصوفيين، ولا سعادتهم ولا يقينهم ولا هيبتهم. كلُّ ما يحلُّ بهم من صنيع العقل.
يظْهر الصوفيّ أعلى مرتبةً من المحلّل النّفسي. في الواقع إنّ المحللين النّفسانيين يخافون مواجهة الصوفيين؛ لأنّ مَثَلَهم أمام الصوفيين كمثلِ الجمل قرب الجبل. لا تحبُّ الجمال الذهاب إلى الجبال؛ تحبُّ الصحراء. فهناك تكون هي الجبال.
كان كارل غوستاف يونغ في الهند. زار تاج محل، ذهب ليرى مجموعة معابد خاجوراهو، ذهب ليرى معابد كوناراك، لكنّه لم يذهب لرؤية رامانا مهارشي. وحيثما ذهب، قيل له مرارًا وتَكرارًا " أنت أحد أعظم المحلّلين النّفسييين في الغرب، عليك ألاّ تفوِّتَ فرصة لقاء صوفيّ مشرقيّ قد بلغ صفْوَه الكامل."
كان في الجنوب، على بعد ساعتين من بلوغ رامانا مهارشي لو أراد ذلك. لثلاثة أشهر كان في الهند، لكنّه تجنَّب الأمر. لا يمكن لهذا أن يكون محض صدفة. ولقد شعر هو نفسُه أنّه مدين بتفسير ما، وإلاّ سيبدو الأمر على أنّه تجنَّب. وبطبيعة الحال، لمّا كان مفكرًا عظيمًا ومحلِّلًا نفسيًّا كبيرًا- كان بوسعه إيجاد أيِّ عذرٍ وأيِّ تفسير، وقد وقع على تفسيرٍ يمكن اعتباره خطيرًا.
صدر تفسيره عندما عاد لزيورخ، صرّح بأنّه لم يذهب لرؤية رامانا مهارشي" لأنّ ثمة اختلاف بين طرائق الشّرق وطرائق الغرب، وأنّ الطريقة الشرقيّة خطيرة على الإنسان الغربيّ؛ إذ إنّه نشأ بطريقة مختلفة، تقاليده مختلفة وثقافته مختلفة ودينه مختلف وتطوره النّفسيّ كلّه مختلف. إن من الخطير أن نجلب لهذه النّفسيّة المختلفة أيّة طريقة من الشّرق؛ لأنّ تلك الطرائق طوَّرتْ لإنسان مختلف، لنفسيّة مختلفة- ولهذا لم أزره." لكن هذا كلّه هراء، فمن قال إنّ عليك اتباع رامانا مهارشي، من قال إنّه عليك استعمال تقنياته وطرائقه؟
كلُّ ما كان يصرُّ النّاس عليه هو أنّ عليك أن تراه على الأقل. مجرّد لقائه لم يكن ليدمِّرَ علم نفسِك الغربيّ. لو كان هذا العلم ضعيفًا وهشًا لدرجة أنّ لقاء رامانا مهارشي سيدمره، فهو لا يستحق عناء الإبقاء عليه — يجب أن يدمَّر، وكلّما كان ذلك أقرب كان أفضل. لم هدر الوقت على شيء بهذا الضّعف؟ رامانا مهارشي ليس خائفًا منك.
حين قيلَ لرامانا مهارشي إنّ كارل جوستاف يونغ هنا وإنّه قيل له باستمرار من قبل كلِّ عالِم نفسٍ يلتقيه في الهند" إنّ لقاء أيِّ بروفيسور تحليل نفسيّ في الهند عديم الجدوى؛ لأنّهم ببساطة يكررون ما تنتجه أنت في الغرب كالببغاوات. من الأحسن أن تذهب لترى شخصًا فريدًا ومختلفًا لتكون لديك نظرة مقارنة." حين سمع رامانا بهذا وأنّه قد يأتي إليه شعر بالغبطة. وقال: "مرحبًا به في أيِّ وقتٍ شاء القدوم، أنا متوفر"
وهذا الرجل أميّ. ترك منزله في عمر السّابعة عشر. ليس خبيرًا بأيِّ شيء. ليس عالِم منطق، ليس فيلسوفًا وليس خائفًا من أيٍّ من مؤسسي علم التحليل النّفسيّ. كان ليسعد برؤيته. لكنّ محلّل النّفس جبان.
بالنّسبة لي، ليستْ هذه مجرّد حادثة بين يونغ ورامانا؛ إنّها رمزيّة للغاية، وذاتُ مغزى. علم التحليل النّفسيّ الغربيّ خائفٌ لأنّه قائمٌ على رمال متحركة، لا أساسَ له. إذن لو سألتني، لا يمكن لي أن أقترح عليك تغييراتٍ صغيرةٍ هنا وهناك. ليس بوسعي أن أخبرك كيف تقدر على ترميمه تاركًا البنیان القديم سليمًا— مجرّد أن تطليه بلون جديد، وأن تعيد ترتيب الأثاث وما إلى ذلك. لا. أساساتُ البناء كلّه قائمةٌ على نحو خاطئ.
على علم النفس الغربيّ أن يترك الإيجو وأن يجد الذّاتَ الحقيقيّة وذلك غير ممكن من دون التأمُّل. لقد فعلها الشّرق لآلاف السنين. لذا ليس الأمر جديدًا، ليس شيئًا غير مُستكشَف، ليس أمرًا دونكيخيوتيًا. إنّه أمرٌ تقف القرون له دعامة. ولم يُجَنَّ أيِّ متأمُّل يومًا، لم ينتحر أيِّ متأمُّل يومًا، لم يغتَصِبْ أيِّ متأمِّلٍ يومًا. ليس الأمر مجرّد تجربة عمليّة، أو فهمًا فكريًا؛ إنّه تحوَّل جذريِّ للإنسان نفسِه.
يجب تذكير المحلل النفسي بإحدى مقولاتِ سقراط؛ على الطبيب أن يشفي نفسّه أولًا. المحلّل النّفسيّ مريض بدوره، مريضٌ تمامًا. لا يختلف عن الزّبون. جميعهم في قارب واحد. إنّه يرى نفس الكوابيس ويعاني من نفس التوتراتِ النّفسيّة و يشعر بنفس اللامعنى ويحاول مساعدة النّاس الّذين يحملون نفس الأمراض. أنّى له أن يكون مرجعًا. بأيِّ وجهٍ سيؤكد للمريض أنّ الأشياء قابلة للتغيير. ليستْ شخصيته مندمجة بكليتها في عمله. إنّها دراسته فحسب.
يشبه الموضوع رجلًا يدرس تاريخ الفنّ، فيصبح مؤرخًا عظيمًا لكلِّ الفنِّ الّذي أنتج في العالَم كلّه، لكنّه لا يستطيع رسم خط مستقيم بنفسِه. لأنّ لا ذلك ليس تاريخًا. لا مغزى من ذلك، فتخصّصه التّاريخ. هذه حال المحلّل النّفسيّ: يعرف كلَّ شيءٍ عن العقل، لكنّه لا يعرف كيف يغيّره، لا يستطيع تغيير عقله حتى؛ لأنّ في كلِّ تغيير عليك أن تكون منفصلًا عن الشيء الّذي ستغيره. وهو يعرِّف نفسَه بالعقل - فمَنْ سيغيّر مَنْ؟
يخلق التأمُّل الفجوة. يأخدك ما بعد وما وراء العقل، عندها يمكنك أن تتغيّر؛ لأنّ العقل يصبح موضوعًا لك. عندها لا تعود تعرِّف نفسَك بالعقل. عندها تستطيع إعادة ترتيبه أو تغييره بشكل كامل ولا يقدر العقل أن يؤثر عليك إطلاقًا. أنت قصي للغاية، متعالٍ للغاية بحيث لا يستطيع العقل الوصول إليك.
يمنحك تعذر وصول العقل إليك قوّة هائلة. تستطيع الوصول إلى العقل وتغيير أيَّ شيءٍ تريده ويصبح العقل عاجزًا لأول مرّة. تستطيع مساعدة مرضاك على أن يتأمَّلوا.
الآن يخبرون مرضاهم أن يمارسوا تمارين تحليل أحلامٍ عديمة الجدوى. يأتي المريض مرّتين أو ثلاثًا في الأسبوع لمدّة ساعة، متحدثًا عن جميع أحلامه. وبينما يتحدث عن أحلامه، جالسًا خلف الأريكة، أتعتقد أنّ المحلّل النّفسيّ يستمع إليه؟ هل هو قادر على الاستماع؟ يحتاج لذلك إلى عقل صامت، وهذا ما لا يملكه. لربما يحلم بدوره، جالسًا في الخلف.


المصدرأوشو-تسجيلات- العهد الأخير، المجلّد الخامس.


ترجمة: Abderezak Belhachemi