الأحد، 13 سبتمبر 2015

عصر المائة وأربعين حرفًا - تأملات في فعل الكتابة.






"أنا مُغتاظ من كتاباتي.أنا مثل عازف كمان أذنه ممتازة، لكن إصبعه تأبى إعادة إنتاج الصوت الذي يسمعه داخله." -غوستاف فلوبير



لم أتأمل شيئًا طيلة حياتي مثلما تأملتُ فعل الكتابة، حتى إن تأملاتي هذه ثنتني عن أشياءَ كثيرة أخرى، من ضمنها الكتابة. انتهيتُ إلى أنّ الكاتب لا يكون كذلك بنصوصه أو كلماته، وإنّما برؤيته، بل واعتبرت ُنفسي كاتبًا دون أن أجرؤ على تسويد سطرٍ واحد.
لقد عرفتُ الكتاب الرديئين عن قرب، ووجدتُ أنّ ما يميزهم هو قدرتهم على الكتابة. لا يمكن بأيّ حال اعتبارهم كتابًا، رغم نصوصهم الجيّدة.
حريٌ بالكتاب التوقف عن الثرثرة واستهلاك نفوسهم، بل والنزوع إلى الصّمت. كيف لمن يعرضُ فيضَ انفعالاته ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال أن يرقن الكلماتِ دون أن يشعر  بالعار؟!
لاعتباراتٍ اجتماعية، صار هؤلاء الرديئون يفاخرون بأنّهم لا يكتبون للآخر، بل لنفوسهم. هذه فكرة كلّ كُتاب هذا القرن، وهي -بالمناسبة- استمناءٌ لغويٌّ لا أكثر. الكتابة لا تكون لأحد - ولا حتى للنّفس.
الجبنُ صفة أصيلة في الكاتب، تمامًا مثل التمرّد. إنّه متمرّد سلبي، ضدّ نفسه. من هنا تتضح مهمة الكاتب: إنّه لا يتجاوز نفسه إلاّ ليلاحقها ويبحث عنها من جديد.
أجِدُني أتفقُ مع تلك الفكرة السيورانيّة التي تقول إنّ الانعتاق والخلاص يفيدان الإنسان ولكنّهما يقوضان الكاتب.
 يطاردُ كتاب هذا العصر أيضًا  المشاعر السلبيّة في الفشل، والحال أنّ الظّفَر قد يكون أيضًا منبعًا لها:  ليس الظّفَرُ خطرًا على الكاتب، وإنّما التصالح مع الظّفَر.
عند تسويد الأوراق، الكاتب الجيّد هو كاتب مقتصد، رغم ما يختبره من إغراءاتٍ بالإسهاب والتوسّع. حتى في عصر المائة وأربعين حرفًا، الاقتصاد في الكلمات بما لا يدع مجالاً للتعديل هو ما يميّز الكُتاب، ذاك الذي يقبل تغيير فاصلةٍ واحدةٍ في نصه يكفُّ عن كونه كاتبًا.
ليس الاختلال وحده ما يميز الكاتب الجيّد، ولطالما اعتقدتُ أنّه لا يوجد كاتبٌ جيّد وآخر سيئ، بل يوجد كاتب حقيقيّ، عميق، متوازن ومختل، فاجر وفاضل؛ وشبه كاتب، مجرّد اسم فاعلٍ من "كَتَبَ"، معاق، محدود، متزّمتُ العقل؛ لا يفضي به بحثه عن الكلماتِ إلاّ لمرادفاتها. البحث عن الكلمات هو بالضّبط ما على المرء تجنبه، عليها أن تخرج من روحكَ كالصاروخ بتعبير بوكوفسكي.
وفي النهاية، أكبر خطإ قد يقدم عليه كاتبٌ ما هو أن يبرّرعملاً ما. على النّص أن يظهر شخصيته ويحمل مبرّراته بين سطوره، أن يصير كيانًا مستقلاً ومتمرّدًا على كلّ شيءٍ بدءًا من كاتبه، عليه أن يزيحه ليجد مساحته ومكانه.



بقلم: Achraf Nihilista


هناك تعليقان (2):

  1. تأملاتك موجزة وعميقة، كيف لا تكون كاتباً حقيقياً رغم ما تنم عليه كلماتك من معرفة. أنا شاعرة وأفهم تماما ما بين السطور.

    ردحذف
  2. Une oeuvre où il y a des théories est comme un objet sur lequel on laisse la marque du prix.

    Marcel Proust

    ردحذف