الاثنين، 29 أغسطس 2016

قصائد نثر صغيرة - شارل بودلير


نصوص من كتاب الشاعر الفرنسي شارل بودلير "كآبة باريس" المعروف أيضا ب"قصائد نثر صغيرة".


شارل بودلير


الغريب:



-منْ تُحبُّ أكثرَ، أيُّها الرَّجلُ الغامضُ، أخبرني؟ أبوكَ، أمُّكَ، أختُكَ أم أخوكَ؟
-ليسَ لي أبٌ ولا أمٌّ، لا أختٌ ولا أخ.
-أصْدقاؤُكَ؟
-أنتَ تستعملُ كلامًا ظلَّ معناه حتَّى الآنَ مجهولاً بالنِّسبةِ لي.
-وطنُك؟
-أنا أجهلُ تحتَ سماءِ أيِّ ضجرٍ يقع.
-الجمالُ؟
-كنتُ لأحبَّه بكلِّ سرورٍ، هذا الإلهُ الخالدُ.
-الذَّهب؟
-أكرهُهُ كما تكرهُ أنتَ الإلهَ.
-آهِ! ماذا تحبُّ إذن، أيُّها الغريبُ الرَّائعُ؟
-أحب السُّحبَ... تلكَ السُّحبَ الَّتي تَمضِي... هناكَ... هذه السُّحب الساحرة!




***


في السَّاعة الواحدة صباحًا:



أخيرًا! وحدي! لا شيءَ يكاُد يُسمعُ غير بعضِ العرباتِ المتأخِّرةِ والمتعبة. ساعاتٍ بعدُ، وسننالُ الصمتَ، إن لم تكن الرّاحةَ. أخيرًا سيتداعى استبدادُ الوجهِ البشريّ، ولنْ أعاني بعدُ سوى منْ نفسي.
أخيرًا! صار ممكنًا لي الاسترخاءُ في حمام من الظّلمات. بدايةً، دورتانِ في القفل. دورانُ القفل سيعزِّزُ وحدتي، ويقوي المتاريسَ الّتي تفصلني حاليًا عنِ العالَم.
حياةٌ كريهة! مدينةٌ كريهة! لنسترجِع ذكرياتِ هذا اليوم: رؤيةُ العديد من رجالات الأدبِ، بينهم شخصٌ سألني هلْ يمكنُ بلوغُ روسيا برًا (يظن بلا شكٍّ أن روسيا جزيرة)؛ شجارٌ كبيرٌ مع مديرِ إحدى المجلات، الَّذي كان يرد على كل اعتراضٍ مني قائلاً: "هنا حزبُ النّاسِ الشرفاء"، ملزمًا بذلك أن بقيَّة الجرائدِ يُحرِّرها الأنذال؛ إلقاءُ التَّحية على عشرين شخصًا، من بينهم خمسة عشر مجهولونَ تمامًا بالنسبة لي؛ مصافحةُ نفسِ العددِ من النَّاس، وهذا دونَ اقتناء قفازاتٍ احتياطًا. التَّوجه في أثناءِ انهمارِ المطرِ إلى عاهرةٍ كانتْ، بغَرضِ قتلِ الوقتِ، قد طلبتْ منِّي تصميمَ زيٍّ فينوسيّ لها. التَّملقُ إلى مديرِ مسرحٍ أخبرني وهوَ يهمُّ بطردي: "تحدَّث إلى السَّيد ز...؛ إنَّه الأكثرُ ثقلاً، الأكثرُ سذاجةً وشُهرةً منْ بينِ كلِّ كُتَّابي؛ معهُ بإمكانكَ بلوغُ شيءٍ ما؛ قابلهُ، ومن ثمَّة سنُقَرِّرُ."؛ التَّباهي بالعديدِ من الأعمالِ الفظيعةِ الَّتي لمْ أقم بها (لماذا؟)، ثمَّ، وبكلِّ جبنٍ، نُكران بعض الفظاعاتِ الأخرى الَّتي قُمتُ بها بسعادةٍ غامرةِ: جريمةُ التَّفاخر، وجريمةُ الاحترامِ الإنساني؛ امتناعي عن تقديمِ خدمةٍ سهلةٍ لصديقٍ، ثم تقديمُ تزكيةٍ مكتوبةٍ لشخصٍ غريبِ الأطوار. أوف، هل انتهى كلُّ شيء؟


مستاء من الجميعِ، وغير راضٍ عنْ نفسي. لَكَمْ أرغبُ بتخليصِ نفسي والتَّباهي قليلاً في سكونِ وعُزلةِ اللَّيل. أدعوك، يا أرواحَ أولَئك الَّذين أحْبَبتُهم، وأولئك الَّذينَ أطْربتُهم، أن تُقَوِّيني، وتَدْعَميني، وتُبعديني عن الكَذِب، وعنْ ضَبابيةِ العالمِ المُفسِدَة! وأنتَ، يا إلهي! ارحمني لعلِّي أَنْظُمُ بعضَ الأبياتِ الجميلةِ الَّتي تُثبتُ لي أنَّني لستُ آخر الرِّجَالِ، ولستُ أدنى أولئكَ الَّذين أكرههم!




ترجمة: Achraf Nihilista



هناك تعليق واحد: