السبت، 18 أبريل 2015

العدميون -أيضا- يحبون أمهاتهم.





نص عن ألبير كاراكو: العدميون -أيضا- يحبون أمهاتهم.







توطئة سريعة: هذا نص مترجم عن الفرنسية من المجلة الأسبوعية ماريان Marianne ، كتبه برونو دانيال لوران Bruno Deniel Laurent سنة 2012 عن المفكر المتشائم و السوداوي ألبير كاراكو.


أم ألبير كاراكو، التي تعود مناداتها بـ "السيدة الأم"





غداةَ الحربِ العالميةِ الثانية، استقرَ في أوروبا -التي كان مضطرًا للهروب منها-، تركيّ بجنسيةٍ أروغويانية، اختارَ لنفسهِ المهنةَ الوحيدة حيث يمكنه أن يمارس اللّعن. ركزَ غضبهُ على نفسهِ بالطبع، لكن أيضًا على فرنسا، النساء، الكنيسة الكاثوليكية، الأمل، الجنس، المسلمين و الكبرياء. كان تعريفه للعالم:"الجحيم المحكوم بالعدم". ارتبط ألبير كاراكو -اسم هذا الكاتب الغريب- بطريق الانتحار، لكنَّ حرصهُ على آداءِ أدوارهِ كابنٍ جعلهُ ينتظرُ وفاةَ آخرِ آبائه. في انتظار هذا الحدث المأساوي، حصرَ كاراكو نفسهُ في نوعٍ من الكتابة اليومية، مُسوِّدًا بذلك عشراتِ الدفاتر بشذراتٍ سامةٍ ملعونة، هي في نفس الوقت هستيرية و هادئة، مكتوبة إما بالألمانية، الإنجليزية، الإسبانية أو الفرنسية.

بعد أكثرَ من خمسٍ و عشرين سنة من العودة لأوروبا بقليل، توفي والده. لكن كاراكو وفى بوعده: شنق نفسه عام 1971 قرب جثة أبيه التي كانتْ لمّا تَبرد بعد. كما نرى، كان كاراكو من معدن غير معدن كتابنا اللعوبين "اليائسين" -سيوران، ماتزنيف و رولان جاكار- الذين ظلوا مستئنسين بانعكاس الضوء من على مسدساتهم الفارغة. بعيدًا عن منح إحساسٍ بيأسٍ مبتذلٍ ناتجٍ عن نوراستينيا تافهة، كان كاراكو باعتراف أحدِ ناشريه، كأنه منظرٌ للسوء، أو مهلوسٌ يسكنُ جسدَ ضابط. كان أسلوبه نثرًا رائعًا من القرن السابع عشر، نادرَ الاستعمال في وقتنا، مُرَكّزًا تركيزًا منهجيًا ضدَّ جميعِ أشكالِ الوجودِ الإنساني.

قبل وفاةِ الأب، توفيتْ "السيدة الأم" عام 1963. "بعد الوفاة" الكتاب المنشور لأولِ مرة عام 1968، والمعادُ نشره ضمن سلسلة ريفيزور Révisor بدار نشر "عصر الانسان"، و الذي يعدُ جوهرةَ حساسيةٍ وسط كتب كاراكو السوداوية. أمام جثة أمه الهامدة، يقتحمُ الكاتبُ أبوابَ اليأسِ الحميمي. الفقرة الرئيسية في كتابه "بعد الوفاة" كانت: "لقد ماتت السيدة الأم، و نسيتها منذ مدة، لحظة وفاتها تعود من حين لآخر إلى ذاكرتي، ولو حتى لساعات قليلة، فلنتحدث عن هذا قبل أن تضيع في غياهب النسيان. أتساءل هل أحبها؟ و أنا مجبر على الإجابة بـ لا، أنا أعاتب عليها إخصائي، هذا حقًا قليل، و لكن... (...) ثم هي من رمتني في العالم و وظيفتي كره العالم." في نظر كاراكو، أن يعاتب أمه لأنها منحته الحياة هو بمثابة تقييم للوجود.  "بعد الوفاة" يسرد آخر شهور المسكينة، إذ يعتبرُ كاراكو أنها أمثلَ طريقةٍ لدفن هذه الفترة معها: نحن إذًا أمام عدميّ غريب يحدثنا عن أمورٍ أكثرَ غرابةً، مثلَ حدسِ الأمومة، الأقمشة الحريرية وماكياج الأعين... الدعوة للقضاء على النوع البشري تتوقف، لفقرة واحدة، أمام وجهِ أمٍ حساسةٍ تشيخ، وأمام بهجتها البدائية التي تذبلُ شيئًا فشيئًا بتأثيرِ ورمٍ خبيثٍ غير معتاد.  جاءتْ أجملُ فقراتِ كتابِ "بعد الوفاة" بالمصادفة  نتيجةً للتناقض المباشر بين "اللامبالاة المزمنة" التي يتقنها كاراكو و بين الرقة التي يحملها لأمه، و التي لا يستطيعُ أن يوقفَ استفحالاتها. مع تقدم الكتاب، تتصدعُ مقاومةُ الابنِ شيئًا فشيئًا، و تظهرُ هفواته الصغيرة كأنها معجزات. "بعد الوفاة" هو قصيدة سوداء، من دون شك، لكنها تكشفُ أكثرَ الحقائقِ بريقًا: الجمالُ القذرُ في منحِ الحياة، والذي لا تستطيعُ أشدُّ نوباتِ اليأس، وأكثرها صرامةً، أن تدحضه.


ترجمة : Achraf Nihilista