الأحد، 23 نوفمبر 2014

مقتطفات من ألبير كاراكو




مقتطفات من ألبير كاراكو Albert Caraco: 



caraco
آلبير كاراكو







أُغلقَ العالمُ منْ جديد، عادَ كما كانَ قبلَ الاكتشافاتِ الكبرى، يميّزُ عامُ 1914 الانطلاقةَ الثانيةَ للعصورِ الوسطى و نعودُ إلى ما دعاهُ الغنوصيون بسجنِ الروحِ في العالمِ المنتهي الذي لنْ نخرجَ منه أبدًا.
من هذا التفاؤلِ الذي اكتسحَ عددا هائلاً من الأروبيين طوالَ أربعةِ قرون، دخلتِ النكبةُ التاريخ، فنتسائلُ فجأةً إلى أين نتّجه؟ و نتسائلُ أيضًا عنْ سببِ ما يحدثُ لنا. ثقةُ آبائنا في تقدمٍ إنسانيٍ بلا حدودٍ تمَّ اغتيالها: ندورُ في دائرةٍ و لا نستطيعُ حتى تصوّرَ ما صنعتهُ أيدينا.
هذا يعني أنّ أعمالنا قد تجاوزتنا، و أنَّ العالمَ الذي صنعهُ الإنسان، يتجاوزُ مرةً أخرى فهمه. مهما بنينا أكثرَ في ظلِّ الموت، يظلُّ الموتُ وريثًا لكلِّ منجزاتنا العظيمةِ و كلّما اقتربتْ ساعةُ الاحتضارِ نتجرّدُ أكثرَ منْ عاداتنا كما منْ ملابسنا، نحنُ نغادرُ عراة، لكي تتمَّ محاكمتنا، عراةً منِ الخارجِ و فارغينَ منَ الداخل، الهاويةُ أسفلنا و الفوضى أعلانا.



***



المدنُ التي نسكنها هي مدارسُ الموت، لأنّها غيرُ إنسانية. صارتْ كلُّ واحدةٍ منها مجمّعَ ضجيجٍ و نتانة، أصبحتْ كلٌّ منها فوضى مباني نحتشدُ فيها بالملايين، خاسرينَ بهذا مقوماتِ الحياة.
نجدُ أنفسنا تعساءَ بلا أملٍ داخلَ هذهِ المتاهةِ منَ العبثِ التي لا نخرجُ منها إلا أمواتًا، لأنَّ مصيرنا هو مضاعفةُ الهالكينَ مضاعفةً لا نهائيّة. في كلَّ مرّةٍ تتقدّمُ المدنُ الواحدة تلو الأخرى، تائقةً للاندماج، نحوَ فوضى مطلقة، منَ الضجيجِ و النتانة. في كلِّ مرةٍ ترتفع أثمانُ الأراضي، و في هذا التيهِ المعقّدِ الذي يبدّدُ الفضاءَ الحر، ترتفع عائداتُ الاستثمارِ يومًا بعدَ يوم. لأنّهُ منَ الأهميّةِ بمكانٍ للمالِ أنْ يشتغل، و للمدنِ التي نسكنها أنْ تتقدّم. و يبقى أيضًا مشروعًا لكلِّ جيلً أنْ يضاعفَ ارتفاعَ مبانيه، و أنْ يصلهُ الماءُ فيها مرّةً كلَّ يومين... البنّائونَ لا يسعَوْنَ إلا للتملصِ منْ قدرهم، و الرحيلَ للعيشِ في القرية.



***



" يموتُ كلٌ منا وحيدًا و كاملاً"، حقيقتانِ ترفضهما الأغلبية؛ لأنّ الأغلبيةَ تناُم كلَّ الوقتِ الذي تحياهُ وتخشى أنْ تستيقظَ لحظةَ الهلاك.
العزلةُ هي إحدى مدارسِ الموتِ التي لنْ يصلها العاميُّ أبدًا، الكمالُ لا يكونُ خارجها، بل هو أحدُ جوائزِ العزلة. و إذا كانَ لابدَّ منْ تقسيمِ البشر، فهم ينقسمونَ إلى ثلاتِ أنواع : المسرنمون (1)، وهم وحدة؛ و العقلاءُ و الحساسونَ وحدةٌ أخرى، إنهم أولئك الذين يعيشونَ حياتهم على جبهتين، و الذين -رغم علمهم بما ينقصهم- يبحثونَ عمَّا هو بعيدُ المنالِ و لنْ يجدوهُ أبدًا؛ ثم الروحانيون ثنائيو الولادة، الذين يتجهونَ نحوَ الموتِ بخطواتٍ متساوية، ليموتوا في نفسِ الوقتِ وحيدينَ و كاملين. لا يختارونَ الزمانَ ولا المكانَ و لا الطريقة، معلنينَ بذلك رفضهم للطوارئِ و الإحتمالات.
إن المسرنمين همُ الوثنيون، العاقلونَ و الحساسونَ هم المؤمنون؛ أما الروحانيون ثنائيو الولادة، فهم يعشقونَ ما لا يقدر على تخيّلهِ الأوائل، و ما لنْ يستطيعَ تصوّرهُ العاقلاء الحساسون، إنّهم بشرٌ كاملونَ و هكذا لن يذهبوا بحثًا عمَّا وجدوه، بل و لنْ يحبوه، لأنهُ يكمنُ بداخلهم.

(1) المسرنم هو من يسير أثناء نومه


***



نتّجهُ صوبَ الموتِ كسهم يتّجهُ إلى هدفٍ لا يضيّعهُ أبدًا، الموتُ هو يقيننا الوحيدُ و نعلمُ دائمًا بأنّنا سنموتُ مهما اختلفَ الزمانُ و المكان و الطريقة. لأنَّ الحياةَ الأبديةَ مرادفةٌ لللامعنى، الأبديةُ نقيضُ الحياة، الموتُ هو الطمأنينةُ المنشودة، الحياةُ و الموت ُمترابطان، و من يطلب شيئًا آخرُ لنْ ينالَ إلا السرابَ جزاءً.
نحنُ، منْ لا نشتري الكلمات، نوافقُ على أنْ نضمحلَّ و نؤكّدُ موافقتنا، لم نخترْ أنْ نولدَ و نتوقّعُ أن نكونَ سعداءَ بأنْ لا نحيا في أيِّ مكانٍ آخرَ في هذهِ الحياةِ التي فرضتْ علينا أكثرَ مما أعطتنا، حياةٌ مليئةٌ بالقلقٍ و الآلام، بأفراحٍٍ إمّا مريبةٍ أو سيئة.
إنسانٌ سعيد؟ ماذا عسى هذا أن يثبت؟ السعادةُ حالةٌ شاذةٌ و نحنُ لا ننظرُ إلا في مجملِ قوانينِ هذا النوع، هي التي نتأملُ و هي التي نُعمِّق . نحنُ نكرُه أيًا ممنْ يبحثونَ عنِ المعجزة، و لا نتوقُ إلى النعيم. بديهياتنا تكفينا وسطوعنا لا يخمدُ في أيِّ مكانٍ آخر.



***



حرٌ هو الإنسانُ وفي الوقتِ نفسهِ مقيّد، أكثرُ حريّةً مما يتصور، و أكثرُ تقييدًا مما يتخيّل. يفرضُ النظامُ أنْ لا تستيقظَ أبدًا جماعةُ الأمواتِ المكوّنةِ أساسًا منْ مسرنمين، لأنّهم يصيرونَ صعابَ المراسِ حينَ يستيقظون. ليس النظامُ صديقًا للإنسان، إذْ يكمنُ دورهُ في حكمه، و قلّما يهدفُ إلى جعله يلين، و نادرًا ما يهدف إلى جعله أكثرَ إنسانيةً.
يجعلُ اعتبارُ النظامِ معصومًا منِ الأخطاءِ الحربَ سبيلاً لتصحيحِ أخطاءه، و كلما ازدادت أخطاءُ النظامِ أكثرَ فاكثر، اتجهنا نحو الحرب أكثر. المستقبلُ و الحربُ يبدوان متلازمين. وهكذا فإنَّ اليقينَ الوحيدَ -الموت- هو في كلمةً واحدة، المعنى لكلِّ الأشياء، و الإنسان هو شيءٌ أمامَ الموت، و الشعوبُ أيضًا ستصير شيئًا مثلَ الإنسان، كانَ التاريخُ دائمًا شغفًا، و مجموع ضحاياه، أيْ العالم الذي نعيش به، هو الجحيمُ المحكومُ بالعدم، حيثُ يرفضُ الإنسان معرفةَ نفسهِ مفضلاً التضحيةَ بها على ذلك، التضحيةَ بنفسهِ كما تفعُل العديدُ منَ الأنواعِ الحيوانيّةِ الأخرى، يفضّلُ التضحيةَ بنفسهِ مثل سربِ جرادٍ أو جيشِ جرذان، متخيّلاً أنَّ الهلاكَ يرفعُ قدره، وراغبًا أنْ يهلك معهُ رغبةً هائلة ، دونَ وعي، عالمهُ الذي يعيشُ فيه.




ترجمة و إعداد : Achraf Nihilista

الاثنين، 3 نوفمبر 2014

بخصوص ترجمة كتاب مساوئ أن يكون المرء قد ولد/ De l'inconvénient d'être né




مساوئ أن يكون المرء قد ولد:


 / مساوئ أن يكون المرء قد ولدDe l'inconvénient d'être né

كتابٌ شارفتْ ترجمته على الانتهاء وسيكون متاحًا للقراءة كاملا قريبا جدا.














في كتابه هذا: مساوئ أن يكون المرء قد ولد، يؤكد سيوران على أن الولادة هي الهزيمة الأكبر للإنسان، وأن كل مساعيه للتألق وتحصيل المعرفة هي محاولات لترقيع لتلك الهزيمة التي لا تُرقع، عدا عن تأكيده أن ذلك الإنسان القديم البليد والنذل الأبله لا يزال يقيم بقوة داخل الإنسان الحديث.وبم أن المصير المؤكد الذي جلبته الولادة هو الموت والاختفاء؛ فإنه يدعو الإنسانية إلى تشييد معابد للموت كما شيدت معابدا  للحياة والآلهة و جعل المقابر وجهتها الروحية. يدعونا سيوران إلى الإقرار بالهزيمة الشخصية وبفشل المغامرة الإنسانية ككل،إذ قد نجد في ذلك الإقرار بعض السكينة في عالم لا خلاص فيه. يكاد "نبي الأرق ورسول العدم" يدعونا بعد تعريضه بكل الآباء والمنجبين وبكل أفكار الخلاص والهوس الجنسي إلى"إخصاء الإنسانية". إلى أين نحن ذاهبون؟ أنتم لا تعدون اتجاه الموت إنكم تفرون من فاجعة الولادة..وإننا نخطئ حين نظن أنه لا نفع يرجى من الموت ونرتد بذلك إلى هاوية الولادة الأشد سحقًا وغورًا : هكذا يجيبنا سيوران بعد تنقيبه في لا وعيه ولا وعينا. بل إن الانحطاط البشري يقاس عنده بمقدار اختفاء الشعوب و القبائل التي تقيم الحداد والمأتم عند الولادة.  لا يخفي سيوران إعجابه بالعقائد الغنوصية والمانوية والبوغولومية..إلخ  كل تلك العقائد "بعيدة النظر" التي تجرم الولادة وتضع هذا العالم تحت سلطة الشيطان.. لم ينس بوذا بالطبع، لكن حسه الساخر أو إحساسه الخارق بالخيبة كما يسميه جعلا من محاولة اتباع خطاه أو خطى أي حكيم آخر غير ممكنة بل حتى هزلية. مهما يكن مقدار السوداوية الظاهر في هذا الكتاب؛ فإن القارئ بعد إنهائه يشعر بصفاء روحي وشيء من الإشراق. هذا الكتاب هو مجموع تجارب وجودية ميتافيزقية شكوكية صوفية دينية هرطوقية حادة فكاهية و سوداوية. نهاية لا بد من الإشارة إلى أن سيوران ذكر في إحدى مقابلاته أنه إذا كان عليه أن يتمسك بشيء كتبه فهو سيتمسك بالصفحات السبع الأخيرة من السقوط من الزمن وكتاب مساؤئ أن يكون المرء قد ولد، سيتمسك بكل كلمة فيه.  




شذرات من الكتاب



الثالثةُ بعدَ منتصفِ الليل. أرصدُ عبورَ هذهِ الثانية، ثمَّ التي بعدها، ثمَّ التي تليها: أُعِدُ ميزانيةً لكلِّ دقيقة. ولمَ كلُّ هذا؟ لأنني ولدت. الطعنُ في معنى الولادةِ مصدرهُ أرقٌ منْ نوعٍ خاص.

***


نحنُ لا نعدو باتجاهِ الموت، نحنُ نهربُ منْ فاجعةِ الولادة، إننا مجموعةُ هاربينَ متعاركينَ نحاولُ نسيانَ تلكَ المأساة. ليسَ الخوفُ منَ الموتِ سوى إسقاطٍ لخوفٍ يعودُ للحظتنا الأولى على المستقبل.
يرعبنا –بالتأكيد- التفكيرُ في الولادةِ ككارثة إذ لقنونا أن الولادةَ أمرٌ جيد، و أنَ الأسوأَ موجودٌ في نهايةِ مسارنا و ليسَ في بدايته. السوءُ في الحقيقة موجودُ خلفنا لا أمامنا. هذا ما فاتَ المسيح و ما أدركه بوذا : "لو لم توجدْ هذِه الثلات، أيها المريدون، ما كان للعظيمِ أن يظهرَ في العالم. " و قبلَ الشيخوخةِ و الوفاة، كاَن يَعُدُ الولادةَ مصدرًا لكلِّ العللِ و الكوارث.

***

لا أغفرُ لنفسي أنني ولدت. كما لو أنني بانسلالي إلى هذا العالمِ قد انتهكتُ سرًا، حنثتُ عهدًا مقدسًا، ارتكبتُ خطأً لا حدودَ لفداحته. ومع ذلك في مِزاجٍ أقل حدة، تبدو لي الولادةُ فاجعةً كنتُ سأكونً تعيسًا بعدمِ معرفتها.


***


أنْ لا تولد، مجردُ التفكيرِ في ذلك- يالهُ منْ سعادة، يا لهُ منْ حرية، يا لها منْ مساحة!


***


"على قيدِ الحياة" فجاةً أجدُني مصدومًا بغرابةِ تعبيرٍ كهذا، كما لو أنهُ لا ينطبقُ على أحد.


***

أيامٌ يسودها العقم. بدَل أنْ أبتهجَ بها، أنْ أعلنَ الانتصار، أنْ أحوِلَ جفافي إلى عيد، أنْ أراها شاهدًا على نضجي، أتركُ غيظي وسوء مزاجي يجتاحانني، يا لعنادِ الإنسانِِ القديم المقيمِ داخلنا، الوغدِ المضطرب، العاجز عن إزالةِ نفسه.


***


لقد أفرطتُ في استخدامِ كلمة" اشمئزاز". لكن من سواها تسعفني في الإشارةِ إلى حالةٍ لا ينفكُ فيها الإعياءُ عنْ إزاحةِ الغيظ، والغيظُ عنْ إزاحة الإعياء؟


***



أستمعُ إلى ريبورتاج حالةِ الطقس، تعتريني رغبةٌ في الترنمِ مع الكلمات" أمطارٌ متناثرة". ما يثبتُ قطعًا أنَّ الشِعرَ في دواخلنا وليسَ في التعبير، كأنَ "متناثرة" صفةٌ قادرةٌ احداثِ ذبذباتٍ خاصة.  

***


"لا يستطيعُ المرءُ أنْ يعيشَ بلا دوافع"، لم تتبقَ لديَّ أيّةُ دوافع، ولا زلتُ أعيشُ مع ذلك.

***

 ليسَ الموتُ حدثًا دونَ جدوى تمامًا. بفضلِه قد يكونُ بوسعنا استعادةُ الفضاءِ السابقِ للولادة، فضائنا الوحيد...

***

في بحثهِ عنِ " الانبعاثِ الروحي"، يسافرُ غوغول إلى الناصرة ويكتشفُ أنهُ سئمٌ كما كانَ في " سكة الحديد الروسية" –هذا ما يحدثُ لنا جميعًا حينَ نبحثُ خارجَ أنفسنا عمّا هو موجودٌ في الداخلِ فقط.

***

الموتُ هديةُ السماءِ لأولئكَ الذينَ سيمتلكونَ موهبةَ وذوقَ الإخفاق- جائزةُ كلِّ اللذينَ لم يفعلوا شيئًا، والذين لم يرغبوا في فعلِ شيء... إنهُ يشرعهم، إنهُ أسلوبهم في الظفر. وفي المقابل، للآخرين، لأولئكَ الذين كدحوا في سبيلِ النجاح، والذين حققوه: يا لهُ منْ جحود، يا له منْ صفعةٍ.





ترجمة : Shiva Okleh و Achraf Nihilista